الإمام موسى الصدر: رجل سبق عصره
الشيخ محمد توفيق المقداد
مجلة الإنتقاد (لبنان)
الجمعة، 30 آب / أغسطس 2002
في عقدي الستينيات والسبعينيات كان الإسلام بمعناه الذي نراه اليوم غير موجود، بل إن التدين لم يكن حالة عامة وخصوصاً بين الشباب الذين كانوا ينظرون الى الدين والإسلام على أنه عودة الى الوراء والتخلف عن إرادة التطور نحو اللحاق بركب العصر الحديث ـ عصر العلم والحضارة والتقدم ـ.
في تلك المرحلة ظهر سماحة الإمام السيد موسى الصدر من بين كل هذا الكم الهائل من الفكر التغريبي ليمارس الإسلام بطريقة مغايرة لما كان عليه ديدن رجال الدين في لبنان الذين كانوا قد ركنوا واستكانوا للأمر الواقع ولم يعد لهم ذلك الدور الريادي الذي كان لهم في الأزمنة السابقة والعهود الغابرة، وكما في لبنان كان الأمر كذلك على مستوى العالمين العربي والإسلامي، بحيث ان جلَّ اهتمامات رجال الدين كانت تكاد تنحصر في العبادات وبعض أحكام التجارة والمواريث والأحوال الشخصية، بينما الأجواء الطاغية على المجتمعات الإسلامية هي الابتعاد عن الدين ومفاهيمه الأصيلة والصحيحة، وخصوصاً على مستوى الأنظمة الحاكمة.
ونتج عن ذلك المسار الذي سلكته الغالبية من رجال الدين الابتعاد عن التدخل في المسائل السياسية المتعلقة بإدارة أمور الدول الإسلامية وتركوا ذلك للقادة السياسيين غير الدينيين الذين خلت لهم الساحة لإدارة أمور دولهم عبر الارتباط بقوى الاستكبار الغربي أو الاتحاد السوفياتي السابق.
وعندما وجد السيد موسى الصدر هذا الواقع لم يستسلم له، بل واجهه بقوة وعمل على كسر الطوق الذي حبس رجال الدين أنفسهم فيه وقال كلمته المشهورة "إنني اعتبر العمل السياسي والاجتماعي جزءاً من مسؤوليتي الدينية"، وانخرط في العمل السياسي الداخلي في لبنان وعلى مستوى القضايا العربية والإسلامية العامة وعلى رأسها "قضية فلسطين" وجعلها جزءاً لا يتجزأ من نشاطه وتحركه السياسي، وقال الكلمة المشهورة لأبي عمار في احتفال الأونيسكو الحاشد "إعلم يا أبا عمار أن شرف القدس يأبى أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين"، وهذا ما شكّل بداية إعادة الصراع مع العدو الصهيوني الى جذوره الدينية العميقة، وكذلك أدرك الإمام الصدر أخطار الكيان الصهيوني على لبنان والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام، وأطلق شعاره بأن "التعامل مع إسرائيل حرام" وأنها "شرٌ مطلق" لا يمكن القبول به والتعايش معه، ولذا عمل على تأسيس حركة مقاومة للعدو الصهيوني لحماية لبنان وجنوبه من اعتداءات "إسرائيل" وتجاوزاتها.
وهذا كله هو جزء من المهام التي قام بها السيد موسى الصدر، ومن الأعمال الجليلة التي قام بها هي العمل على بناء المؤسسات ذات التوجه الإسلامي ونشر حالة الوعي الديني الإسلامي الصحيح، وعلى خلفية التدين ليس حالة معارضة للعصر الحديث بل تتوافق معه وتتماشى، لأن الإسلام هو دين الإنسانية كلها، ومن هنا كان سعيه الدؤوب الذي أثمر عن تأسيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" لكي يكون المرجعية الدينية للشيعة في لبنان على مستوى الأمور الدينية وليكون الإطار الذي يحتضن ضمنه رجال الدين الذين شجعهم الإمام الصدر على الخروج من المساجد الى الميادين الاجتماعية والسياسية العامة.
كما كان للسيد موسى الصدر دور مهم في مسار الثورة الإسلامية في إيران، وكان همزة وصل مهمة بين الداخل في إيران وبين أبناء الثورة في الخارج، وكان الى جانبه في لبنان شخصيات لعبت دوراً بارزاً بعد انتصار الثورة ومن أبرزهم الدكتور الشهيد مصطفى شمران (رحمة الله عليه). وقد حظي الإمام الصدر بتقدير الإمام الخميني (قده) الذي اعتبره من رجالات الثورة الإسلامية في إيران، من هنا لم يكن مستغرباً أبداً أن تنتشر الحالة الإسلامية في لبنان والعالمين العربي والإسلامي بعد انتصار الثورة في إيران، لأن عمل السيد موسى الصدر وجهاده على مستوى لبنان والعالمين العربي والإسلامي كان قد مهّد الطريق من خلال الأعمال التي قام بها وأشار للناس أن الإسلام هو دين الحياة في كل عصر، وجاء انتصار الثورة ليؤكد ذلك التوجه ويقويه.
ولهذا نسأل الله أن يعيد هذا الإمام الكبير مع رفيقيه اللذين غابا معه بطريقة ما زالت لغزاً محيراً الى اليوم برغم مرور أربع وعشرين سنة كاملة على ذلك الاختفاء غير المبرر والذي هو حالة فريدة ليس لها نظير في العصر الحاضر.
الشيخ محمد توفيق المقداد
مجلة الإنتقاد (لبنان)
الجمعة، 30 آب / أغسطس 2002
في عقدي الستينيات والسبعينيات كان الإسلام بمعناه الذي نراه اليوم غير موجود، بل إن التدين لم يكن حالة عامة وخصوصاً بين الشباب الذين كانوا ينظرون الى الدين والإسلام على أنه عودة الى الوراء والتخلف عن إرادة التطور نحو اللحاق بركب العصر الحديث ـ عصر العلم والحضارة والتقدم ـ.
في تلك المرحلة ظهر سماحة الإمام السيد موسى الصدر من بين كل هذا الكم الهائل من الفكر التغريبي ليمارس الإسلام بطريقة مغايرة لما كان عليه ديدن رجال الدين في لبنان الذين كانوا قد ركنوا واستكانوا للأمر الواقع ولم يعد لهم ذلك الدور الريادي الذي كان لهم في الأزمنة السابقة والعهود الغابرة، وكما في لبنان كان الأمر كذلك على مستوى العالمين العربي والإسلامي، بحيث ان جلَّ اهتمامات رجال الدين كانت تكاد تنحصر في العبادات وبعض أحكام التجارة والمواريث والأحوال الشخصية، بينما الأجواء الطاغية على المجتمعات الإسلامية هي الابتعاد عن الدين ومفاهيمه الأصيلة والصحيحة، وخصوصاً على مستوى الأنظمة الحاكمة.
ونتج عن ذلك المسار الذي سلكته الغالبية من رجال الدين الابتعاد عن التدخل في المسائل السياسية المتعلقة بإدارة أمور الدول الإسلامية وتركوا ذلك للقادة السياسيين غير الدينيين الذين خلت لهم الساحة لإدارة أمور دولهم عبر الارتباط بقوى الاستكبار الغربي أو الاتحاد السوفياتي السابق.
وعندما وجد السيد موسى الصدر هذا الواقع لم يستسلم له، بل واجهه بقوة وعمل على كسر الطوق الذي حبس رجال الدين أنفسهم فيه وقال كلمته المشهورة "إنني اعتبر العمل السياسي والاجتماعي جزءاً من مسؤوليتي الدينية"، وانخرط في العمل السياسي الداخلي في لبنان وعلى مستوى القضايا العربية والإسلامية العامة وعلى رأسها "قضية فلسطين" وجعلها جزءاً لا يتجزأ من نشاطه وتحركه السياسي، وقال الكلمة المشهورة لأبي عمار في احتفال الأونيسكو الحاشد "إعلم يا أبا عمار أن شرف القدس يأبى أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين"، وهذا ما شكّل بداية إعادة الصراع مع العدو الصهيوني الى جذوره الدينية العميقة، وكذلك أدرك الإمام الصدر أخطار الكيان الصهيوني على لبنان والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام، وأطلق شعاره بأن "التعامل مع إسرائيل حرام" وأنها "شرٌ مطلق" لا يمكن القبول به والتعايش معه، ولذا عمل على تأسيس حركة مقاومة للعدو الصهيوني لحماية لبنان وجنوبه من اعتداءات "إسرائيل" وتجاوزاتها.
وهذا كله هو جزء من المهام التي قام بها السيد موسى الصدر، ومن الأعمال الجليلة التي قام بها هي العمل على بناء المؤسسات ذات التوجه الإسلامي ونشر حالة الوعي الديني الإسلامي الصحيح، وعلى خلفية التدين ليس حالة معارضة للعصر الحديث بل تتوافق معه وتتماشى، لأن الإسلام هو دين الإنسانية كلها، ومن هنا كان سعيه الدؤوب الذي أثمر عن تأسيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" لكي يكون المرجعية الدينية للشيعة في لبنان على مستوى الأمور الدينية وليكون الإطار الذي يحتضن ضمنه رجال الدين الذين شجعهم الإمام الصدر على الخروج من المساجد الى الميادين الاجتماعية والسياسية العامة.
كما كان للسيد موسى الصدر دور مهم في مسار الثورة الإسلامية في إيران، وكان همزة وصل مهمة بين الداخل في إيران وبين أبناء الثورة في الخارج، وكان الى جانبه في لبنان شخصيات لعبت دوراً بارزاً بعد انتصار الثورة ومن أبرزهم الدكتور الشهيد مصطفى شمران (رحمة الله عليه). وقد حظي الإمام الصدر بتقدير الإمام الخميني (قده) الذي اعتبره من رجالات الثورة الإسلامية في إيران، من هنا لم يكن مستغرباً أبداً أن تنتشر الحالة الإسلامية في لبنان والعالمين العربي والإسلامي بعد انتصار الثورة في إيران، لأن عمل السيد موسى الصدر وجهاده على مستوى لبنان والعالمين العربي والإسلامي كان قد مهّد الطريق من خلال الأعمال التي قام بها وأشار للناس أن الإسلام هو دين الحياة في كل عصر، وجاء انتصار الثورة ليؤكد ذلك التوجه ويقويه.
ولهذا نسأل الله أن يعيد هذا الإمام الكبير مع رفيقيه اللذين غابا معه بطريقة ما زالت لغزاً محيراً الى اليوم برغم مرور أربع وعشرين سنة كاملة على ذلك الاختفاء غير المبرر والذي هو حالة فريدة ليس لها نظير في العصر الحاضر.