يعتبر الامام السيد موسى الصدر من كبار الائمة المجددين الذين انخرطوا في العمل من اجل الانسان وخيره ومن اجل اعمار الارض. فلم يكتف بالتنظيرات والكلام المجرَّد بل نزل الى ارض الواقع، وخاض في مشاكل الناس، وسعى الى ترجمة الرسالة الدينية الى الحياة. لذلك جاهد الامام من اجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين، ومن اجل احقاق واعادة الكرامة الى الانسان اشرف مخلوقات الله.
لكن هذا لم يمنع الامام من ان يمدّ الفكر الاسلامي بالكثير من الاجتهادات الكلامية والفقهية. فقد كان من اوائل الذين ساهموا في اطلاق الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان. فكان مع رفاقه المطران جورج خضر والاب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح وحسن صعب والاب فرنسوا دوبره لاتور ويوسف ابو حلقة ونصري سلهب اول من وقعوا بيانا في الثامن من تموز ،1965 في اطار المحاضرات التي نظمتها "الندوة اللبنانية" عن "المسيحية والاسلام في لبنان". هذا البيان يشكل نقطة البداية الفعلية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان لما تضمنه من تأكيد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام.
يؤكد الموقعون على البيان "تلاقي الديانتين في ايمانهما بالله الواحد وبقيامهما معا على تعزيز قيم روحية ومبادىء خلقية مشتركة تصون كرامة الانسان وتعلن حقه في الحياة الفضلى، وتنهض بالارض وما عليها في محبة وسلام ووئام". كذلك اعلنوا "انهم لعلى يقين بأن لبنان هو الموطن المختار لمثل هذا الحوار المسيحي الاسلامي، وبأنه حين يجدد وعيه بتعاليم هاتين الرسالتين يسهم في تجديد طاقة الانسان الروحية وصونها". وتعاهد الرفاق الله على "تحقيق لقاء اخوي مستمر ينهلون خلاله من معين الديانتين العالميتين، وتعلم فيه كل فئة بتعاليم دينها جاهدة في تفهمها لما انطوت عليه الديانة الاخرى من عبر وعظات ونظم تقرب الانسان من اخيه الانسان، وعلى توسيع نطاق هذا اللقاء حتى يضم العناصر التي تبدي استعدادها للاسهام في تركيزه وتعميمه، وعلى السعي الدائب لازالة الحواجز التي نصبتها عوالم مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق (1).
نستشف من هذا البيان عدة خلاصات، ابرزها:
أ- الايمان المشترك المسيحي الاسلامي بالله الواحد. ولو تعددت التعبيرات عن الله، فالله واحد لا يحده تعبير واحد.
ب- الدين واحد، ولو تعددت الديانات. فالبيان بعد ان يتحدث عن ديانتين عالميتين تحملان رسالتين يصل الي القول بـ"دين الله الحق".
ج - ان الديانتين المسيحية والاسلامية جعلتا لخدمة الانسان وصون كرامته وحقه في الحياة الفضلى والسلام والمحبة والوئام، وجعلتا ايضا لاعمار الارض والنهوض بها.
د- تدعو الديانتان الى قيم روحية ومبادىء خلقية مشتركة، وتدعوان الى التقارب بين المسلمين والمسيحيين والافادة المتبادلة من العبر والعظات والنظم التي تنطوي عليها كل من الديانتين.
هذه الثوابت الاربعة شكلت جوهر رسالة الامام موسى الصدر. وهو لم يتوان يوما في خطبه وتصريحاته ومحاضراته، عن الاستمرار في التأكيد واعادة التأكيد عليها. فها هو في كنيسة الكبوشيين، قبيل اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، يعلن ان "الاديان كانت واحدة، لان المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الانسان واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الانسان، نبذنا الله وابتعد عنا فاصبحنا فرقا وطرائق قددا، والقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الانسان فتمزق".
اللقاء لخدمة الانسان بالنسبة الى الامام الصدر، يؤدي الى اللقاء في الله. ففي المحاضرة عينها، يدعو الى العودة الى الطريق السوية، متوجها الى المسلمين والمسيحيين: "اجتمعنا من اجل الانسان الذي كانت من اجله الاديان، وكانت واحدة آنذاك (...) نلتقي لخدمة الانسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الاديان واحدة". وبالنسبة اليه ايضا، "كانت الاديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد. دعوة الى الله وخدمة للانسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة". مما يعني ان الايمان باللّه لا يكون حقيقيا الا اذا سبقه الايمان بأن الدين جعل لخدمة الانسان، لا الانسان لخدمة الدين، وبأن الدين الذي لا يرفع من شأن الانسان وكرامته ليس دينا الهيا، والله بريء منه الى يوم الدين.
يتابع الامام الصدر في محاضرته نفسها تأسيس قاسم مشترك بين الاسلام والمسيحية هو الانسان "هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الارض، الانسان هذا، هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ". يستعمل الامام، هنا، تعبيرين لاهوتيين، الاول مسيحي والثاني اسلامي: الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله، قمة الخلق في الرواية الكتابية (سفر التكوين ،1 26)، والانسان خليفة الله في الارض (سورة البقرة ،2 30) الذي سخر له الله الارض والسموات وجميع المخلوقات.
يؤكد الامام الصدر على ان "الاسلام هو دين التوحيد"، وله طابعه الخاص الذي يميزه عن سائر "الرسالات السماوية". اما منطق الاسلام حول الاديان السماوية، بحسب الصدر، فموجود في القرآن الذي يعلن ان "رسالة محمد هي العقد الاخير في سلسلة الاديان الالهية وان محمّداً هو خاتم الانبياء، مؤمن بهم ومصدّق بانهم رسل ربه". ويتابع الامام قائلا ان القرآن يؤكد "ان دين الله واحد ويسميه بالاسلام ويعتبر ان جميع الانبياء كانوا يبشرون به، وجعل الله لكل منهم شرعة ومنهاجا". ويقر بأن القرآن "ينقل عقائد واحكاما وقصصا تربوية عن الرسالات السماوية السابقة، ويعتمد عليها". ولا يجد في ذلك غرابة، اذ تتشابه "العقائد والاحكام والاخلاق الاسلامية مع غيرها.
نستخلص من اقوال الامام عدة نقاط يعتبرها من الثوابت.
- ثمة "رسالات سماوية" و"اديان سماوية والهية" غير الاسلام، والاسلام نقل عن هذه الرسالات السماوية بعض التعاليم والمرويات النافعة في التربية وترسيخ الايمان.
- تعددية الشرائع والمناهج الالهية، وهذا مبدأ قرآني بامتياز: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة ،5 48).
- توافق الاخلاق الاسلامية مع غيرها من الاخلاق التي نشرتها الاديان السابقة.
وفي محاضرة اخرى، يعرض الامام نظرته الى موضوع تتالي الاديان السماوية، فيقول ان "الرسالات الالهية ذات اطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الانساني، تليها رسالة الانبياء، واخيرا رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعانيها الانسان والتي هي محركات لدفع الانسان الى الخير والكمال ثم يشرح بايجاز ما يقصد قوله بالاطوار الثلاثة. فيعتبر ان الله، في الطور الاول، خلق للانسان فطرة سليمة وضميرا واعيا هو رسوله الاول (اي الضمير) يهدي الانسان سواء السبيل، ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض اجزائه ويكتمل بها. ويستشهد بالآية القرآنية القائلة: {كان الناس أمة واحدة} (البقرة،2 213).
وعندما سيطر الجهل على الانسان فانحرف صانعا من نفسه ومن اسرته ومن قبيلته ومن عنصره اصناما عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، حل الطور الثاني، طور الانبياء. ويستشهد الامام ببقية الآية القرآنية المذكورة آنفا: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة .2 213). لقد بعث الله الرسل والانبياء لهداية الناس وارشادهم الى طريق الحق.
لكن الانسان جعل من الدين او المذهب مركبا جديدا للخلافات وتعبيرا قويا عن اهوائه وانانياته، فاثار فتنا وحروبا ومشاكل وازمات. هذا هو واقع العالم اليوم الذي نجد فيه اناسا مختلفين نذروا انفسهم لخير الانسان ونسوا مصالحهم وحاجاتهم في سبيل الانسان. ويذكر من هؤلاء الناذرين انفسهم "القديس العظيم، العظيم جدا، يوحنا الثالث والعشرين"، والبابا بولس السادس، والبطريرك المسكوني اثيناغوراس، والسيد محسن الحكيم المرجع الاول للشيعة في النجف الذي حج الى مكة المكرمة في تلك السنة (1964). هذا هو الطور الثالث.
اما في ما يتعلق برسالة الانبياء، فيقيم الامام مقارنة بين ما ورد في الانجيل والقرآن، ليبين اوجه الاتفاق بينهما. فيرى ان غاية رسالات الانبياء "التخلق باخلاق الله، والوصول الى مقام خلافته في طريق ليس فيها فشل بل كلها نجاح". وقد دعا هؤلاء الانبياء الى احترام حرية الانسان، معتبرا ان "من كان حرا من نفسه واهوائه فلن تصطدم حريته مطلقا حرية الآخرين".
من ابرز الآيات التي يقابلها الامام الصدر نستل اثنتين متقاربتين هما الآية القرآنية: {ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (المائدة ،5 69)، والآية الانجيلية: "ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر ولا انثى لانكم جميعكم واحد في المسيح يسوع. فاذا كنتم للمسيح فانتم اذا نسل ابرهيم وورثة بحسب الموعد" (رسالة بولس الى اهل غلاطية، 28-29). ويختم الامام مقارناته بين الآيات معلقا: "طلب الرسل من الناس ان يتعارفوا وان يستبقوا الخيرات وان يكونوا كما اراد لهم ربهم (...) والحقيقة ان التفاوت في الرأي وفي الاديان من اهم اسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود، ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية".
تعدد الاديان، عند الامام، هو مجال مباراة الى "استباق الخيرات"، وهذا قول قرآني، وهو كذلك مجال للتعارف، وهذا قول قرآني ايضا: {يا ايها الناس انّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير} (الحجرات ،49 13). ويعبر الامام عن الاختلاف بين الاديان، كما عبّر النبي محمد عن الاختلاف بين ابناء الدين الواحد حين قال في الحديث الشريف: "اختلاف امّتي رحمة".
ويحتل السيد المسيح في فكر الامام موسى الصدر موقعا مميزا. فهو الثائر على النظم الظالمة، ومحرر الانسان من جمود المجتمع الديني، وهو، على مثال الحسين بن عليّ، شهيد الانسانية وفاديها، وها هو ينتهز تصادف ذكرى ميلاد المسيح وذكرى عاشوراء في الفترة ذاتها ليوجه رسالة الى اللبنانيين في خضم الاحداث العاصفة بهم، يستخلص فيها معاني المناسبتين وحاثا اياهم على المودة والعمل من اجل السلام. وهو في هذه الرسالة ينادي المسيح بـ"الفادي"، اغلى وصف عند المسيحيين لمسيحهم، وناسبا "الفداء والاستشهاد" للحسين فيقول: "وشاء ربك ان يستقبل لبنان بعد نهاية محنته الدامية مع ذكريات الهجرة وعاشوراء، ذكرى الميلاد المجيد وميلاد العام الجديد، ذكرى ولادة الايمان والسلام والفداء (...) في حربنا التي لا يعالجها الا عزمنا النابع من الهام الفادي وفداء الحسين".
يبدو الامام السيد موسى الصدر في اقواله عن المسيحية عارفا بها وملما بكتابها وبحياة السيد المسيح وتعاليمه. وهذه خطوة لا بدّ منها للحوار، ان يعرف المرء دين غيره في مصادره الاساسية لا من مصادره الذاتية، لكي اذا ما خاض في الحوار يحاور في ما هو الدين الآخر، لا انطلاقا من ايمانه هو، بل كما يقدم الدين الآخر نفسه. كما يتبين ان فكر الامام ما زال حاضرا ومفيدا لنا اليوم، حيث تسود ثقافة العولمة والاحادية الثقافية. فالامام يدعو الى احترام التعددية الدينية والثقافية، والحفاظ على الخصوصيات الدينية. اما في موضوع الانسان فيبدو ثائرا على الفكر الديني الجامد في المسيحية وفي الاسلام، داعيا الى اعادة الدور الاساسي الذي خلق الانسان من اجله، اي اعمار الارض والعمل من اجل خير الانسان، الى اي دين او قوم انتمى. وتبقى نظرة الامام الى الآديان كافة قابلة للتحقيق، من حيث ان الاديان وجدت لخدمة الانسان وكرامته. لهذا ينبغي العمل معا من اجل اعادة الاديان الى الهدف الذي من اجله وجدت، اي من اجل الانسان.
لكن هذا لم يمنع الامام من ان يمدّ الفكر الاسلامي بالكثير من الاجتهادات الكلامية والفقهية. فقد كان من اوائل الذين ساهموا في اطلاق الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان. فكان مع رفاقه المطران جورج خضر والاب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح وحسن صعب والاب فرنسوا دوبره لاتور ويوسف ابو حلقة ونصري سلهب اول من وقعوا بيانا في الثامن من تموز ،1965 في اطار المحاضرات التي نظمتها "الندوة اللبنانية" عن "المسيحية والاسلام في لبنان". هذا البيان يشكل نقطة البداية الفعلية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان لما تضمنه من تأكيد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام.
يؤكد الموقعون على البيان "تلاقي الديانتين في ايمانهما بالله الواحد وبقيامهما معا على تعزيز قيم روحية ومبادىء خلقية مشتركة تصون كرامة الانسان وتعلن حقه في الحياة الفضلى، وتنهض بالارض وما عليها في محبة وسلام ووئام". كذلك اعلنوا "انهم لعلى يقين بأن لبنان هو الموطن المختار لمثل هذا الحوار المسيحي الاسلامي، وبأنه حين يجدد وعيه بتعاليم هاتين الرسالتين يسهم في تجديد طاقة الانسان الروحية وصونها". وتعاهد الرفاق الله على "تحقيق لقاء اخوي مستمر ينهلون خلاله من معين الديانتين العالميتين، وتعلم فيه كل فئة بتعاليم دينها جاهدة في تفهمها لما انطوت عليه الديانة الاخرى من عبر وعظات ونظم تقرب الانسان من اخيه الانسان، وعلى توسيع نطاق هذا اللقاء حتى يضم العناصر التي تبدي استعدادها للاسهام في تركيزه وتعميمه، وعلى السعي الدائب لازالة الحواجز التي نصبتها عوالم مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق (1).
نستشف من هذا البيان عدة خلاصات، ابرزها:
أ- الايمان المشترك المسيحي الاسلامي بالله الواحد. ولو تعددت التعبيرات عن الله، فالله واحد لا يحده تعبير واحد.
ب- الدين واحد، ولو تعددت الديانات. فالبيان بعد ان يتحدث عن ديانتين عالميتين تحملان رسالتين يصل الي القول بـ"دين الله الحق".
ج - ان الديانتين المسيحية والاسلامية جعلتا لخدمة الانسان وصون كرامته وحقه في الحياة الفضلى والسلام والمحبة والوئام، وجعلتا ايضا لاعمار الارض والنهوض بها.
د- تدعو الديانتان الى قيم روحية ومبادىء خلقية مشتركة، وتدعوان الى التقارب بين المسلمين والمسيحيين والافادة المتبادلة من العبر والعظات والنظم التي تنطوي عليها كل من الديانتين.
هذه الثوابت الاربعة شكلت جوهر رسالة الامام موسى الصدر. وهو لم يتوان يوما في خطبه وتصريحاته ومحاضراته، عن الاستمرار في التأكيد واعادة التأكيد عليها. فها هو في كنيسة الكبوشيين، قبيل اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، يعلن ان "الاديان كانت واحدة، لان المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الانسان واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الانسان، نبذنا الله وابتعد عنا فاصبحنا فرقا وطرائق قددا، والقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الانسان فتمزق".
اللقاء لخدمة الانسان بالنسبة الى الامام الصدر، يؤدي الى اللقاء في الله. ففي المحاضرة عينها، يدعو الى العودة الى الطريق السوية، متوجها الى المسلمين والمسيحيين: "اجتمعنا من اجل الانسان الذي كانت من اجله الاديان، وكانت واحدة آنذاك (...) نلتقي لخدمة الانسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الاديان واحدة". وبالنسبة اليه ايضا، "كانت الاديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد. دعوة الى الله وخدمة للانسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة". مما يعني ان الايمان باللّه لا يكون حقيقيا الا اذا سبقه الايمان بأن الدين جعل لخدمة الانسان، لا الانسان لخدمة الدين، وبأن الدين الذي لا يرفع من شأن الانسان وكرامته ليس دينا الهيا، والله بريء منه الى يوم الدين.
يتابع الامام الصدر في محاضرته نفسها تأسيس قاسم مشترك بين الاسلام والمسيحية هو الانسان "هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الارض، الانسان هذا، هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ". يستعمل الامام، هنا، تعبيرين لاهوتيين، الاول مسيحي والثاني اسلامي: الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله، قمة الخلق في الرواية الكتابية (سفر التكوين ،1 26)، والانسان خليفة الله في الارض (سورة البقرة ،2 30) الذي سخر له الله الارض والسموات وجميع المخلوقات.
يؤكد الامام الصدر على ان "الاسلام هو دين التوحيد"، وله طابعه الخاص الذي يميزه عن سائر "الرسالات السماوية". اما منطق الاسلام حول الاديان السماوية، بحسب الصدر، فموجود في القرآن الذي يعلن ان "رسالة محمد هي العقد الاخير في سلسلة الاديان الالهية وان محمّداً هو خاتم الانبياء، مؤمن بهم ومصدّق بانهم رسل ربه". ويتابع الامام قائلا ان القرآن يؤكد "ان دين الله واحد ويسميه بالاسلام ويعتبر ان جميع الانبياء كانوا يبشرون به، وجعل الله لكل منهم شرعة ومنهاجا". ويقر بأن القرآن "ينقل عقائد واحكاما وقصصا تربوية عن الرسالات السماوية السابقة، ويعتمد عليها". ولا يجد في ذلك غرابة، اذ تتشابه "العقائد والاحكام والاخلاق الاسلامية مع غيرها.
نستخلص من اقوال الامام عدة نقاط يعتبرها من الثوابت.
- ثمة "رسالات سماوية" و"اديان سماوية والهية" غير الاسلام، والاسلام نقل عن هذه الرسالات السماوية بعض التعاليم والمرويات النافعة في التربية وترسيخ الايمان.
- تعددية الشرائع والمناهج الالهية، وهذا مبدأ قرآني بامتياز: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة ،5 48).
- توافق الاخلاق الاسلامية مع غيرها من الاخلاق التي نشرتها الاديان السابقة.
وفي محاضرة اخرى، يعرض الامام نظرته الى موضوع تتالي الاديان السماوية، فيقول ان "الرسالات الالهية ذات اطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الانساني، تليها رسالة الانبياء، واخيرا رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعانيها الانسان والتي هي محركات لدفع الانسان الى الخير والكمال ثم يشرح بايجاز ما يقصد قوله بالاطوار الثلاثة. فيعتبر ان الله، في الطور الاول، خلق للانسان فطرة سليمة وضميرا واعيا هو رسوله الاول (اي الضمير) يهدي الانسان سواء السبيل، ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض اجزائه ويكتمل بها. ويستشهد بالآية القرآنية القائلة: {كان الناس أمة واحدة} (البقرة،2 213).
وعندما سيطر الجهل على الانسان فانحرف صانعا من نفسه ومن اسرته ومن قبيلته ومن عنصره اصناما عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، حل الطور الثاني، طور الانبياء. ويستشهد الامام ببقية الآية القرآنية المذكورة آنفا: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة .2 213). لقد بعث الله الرسل والانبياء لهداية الناس وارشادهم الى طريق الحق.
لكن الانسان جعل من الدين او المذهب مركبا جديدا للخلافات وتعبيرا قويا عن اهوائه وانانياته، فاثار فتنا وحروبا ومشاكل وازمات. هذا هو واقع العالم اليوم الذي نجد فيه اناسا مختلفين نذروا انفسهم لخير الانسان ونسوا مصالحهم وحاجاتهم في سبيل الانسان. ويذكر من هؤلاء الناذرين انفسهم "القديس العظيم، العظيم جدا، يوحنا الثالث والعشرين"، والبابا بولس السادس، والبطريرك المسكوني اثيناغوراس، والسيد محسن الحكيم المرجع الاول للشيعة في النجف الذي حج الى مكة المكرمة في تلك السنة (1964). هذا هو الطور الثالث.
اما في ما يتعلق برسالة الانبياء، فيقيم الامام مقارنة بين ما ورد في الانجيل والقرآن، ليبين اوجه الاتفاق بينهما. فيرى ان غاية رسالات الانبياء "التخلق باخلاق الله، والوصول الى مقام خلافته في طريق ليس فيها فشل بل كلها نجاح". وقد دعا هؤلاء الانبياء الى احترام حرية الانسان، معتبرا ان "من كان حرا من نفسه واهوائه فلن تصطدم حريته مطلقا حرية الآخرين".
من ابرز الآيات التي يقابلها الامام الصدر نستل اثنتين متقاربتين هما الآية القرآنية: {ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (المائدة ،5 69)، والآية الانجيلية: "ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر ولا انثى لانكم جميعكم واحد في المسيح يسوع. فاذا كنتم للمسيح فانتم اذا نسل ابرهيم وورثة بحسب الموعد" (رسالة بولس الى اهل غلاطية، 28-29). ويختم الامام مقارناته بين الآيات معلقا: "طلب الرسل من الناس ان يتعارفوا وان يستبقوا الخيرات وان يكونوا كما اراد لهم ربهم (...) والحقيقة ان التفاوت في الرأي وفي الاديان من اهم اسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود، ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية".
تعدد الاديان، عند الامام، هو مجال مباراة الى "استباق الخيرات"، وهذا قول قرآني، وهو كذلك مجال للتعارف، وهذا قول قرآني ايضا: {يا ايها الناس انّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير} (الحجرات ،49 13). ويعبر الامام عن الاختلاف بين الاديان، كما عبّر النبي محمد عن الاختلاف بين ابناء الدين الواحد حين قال في الحديث الشريف: "اختلاف امّتي رحمة".
ويحتل السيد المسيح في فكر الامام موسى الصدر موقعا مميزا. فهو الثائر على النظم الظالمة، ومحرر الانسان من جمود المجتمع الديني، وهو، على مثال الحسين بن عليّ، شهيد الانسانية وفاديها، وها هو ينتهز تصادف ذكرى ميلاد المسيح وذكرى عاشوراء في الفترة ذاتها ليوجه رسالة الى اللبنانيين في خضم الاحداث العاصفة بهم، يستخلص فيها معاني المناسبتين وحاثا اياهم على المودة والعمل من اجل السلام. وهو في هذه الرسالة ينادي المسيح بـ"الفادي"، اغلى وصف عند المسيحيين لمسيحهم، وناسبا "الفداء والاستشهاد" للحسين فيقول: "وشاء ربك ان يستقبل لبنان بعد نهاية محنته الدامية مع ذكريات الهجرة وعاشوراء، ذكرى الميلاد المجيد وميلاد العام الجديد، ذكرى ولادة الايمان والسلام والفداء (...) في حربنا التي لا يعالجها الا عزمنا النابع من الهام الفادي وفداء الحسين".
يبدو الامام السيد موسى الصدر في اقواله عن المسيحية عارفا بها وملما بكتابها وبحياة السيد المسيح وتعاليمه. وهذه خطوة لا بدّ منها للحوار، ان يعرف المرء دين غيره في مصادره الاساسية لا من مصادره الذاتية، لكي اذا ما خاض في الحوار يحاور في ما هو الدين الآخر، لا انطلاقا من ايمانه هو، بل كما يقدم الدين الآخر نفسه. كما يتبين ان فكر الامام ما زال حاضرا ومفيدا لنا اليوم، حيث تسود ثقافة العولمة والاحادية الثقافية. فالامام يدعو الى احترام التعددية الدينية والثقافية، والحفاظ على الخصوصيات الدينية. اما في موضوع الانسان فيبدو ثائرا على الفكر الديني الجامد في المسيحية وفي الاسلام، داعيا الى اعادة الدور الاساسي الذي خلق الانسان من اجله، اي اعمار الارض والعمل من اجل خير الانسان، الى اي دين او قوم انتمى. وتبقى نظرة الامام الى الآديان كافة قابلة للتحقيق، من حيث ان الاديان وجدت لخدمة الانسان وكرامته. لهذا ينبغي العمل معا من اجل اعادة الاديان الى الهدف الذي من اجله وجدت، اي من اجل الانسان.