الاعلام في فكر الإمام الصدر:
"قل كلمتك وقاتل من أجلها"
د. جورج كلاّس
جريدة النهار (لبنان)
الأحد، 13 تشرين الأول / أكتوبر 2002
شكل مقاربة الفكر الاعلامي عند الامام موسى الصدر، مدخلا لفهم ركائز المنطلقات الرئيسة، التي جعلت من فهمه معنى الاعلام ودوره في المجتمعات النامية وذات النمط التعددي، حضاريا ودينيا ومستويات عيش متفاوتة، اسلوب تفكير وفن تعبير، تمايز بهما الامام عن غيره من المسؤولين في لبنان. ويظهر، لمن تابع تحرك الامام من خلال الاعلام اللبناني بين ،1969 تاريخ انتخابه رئيسا للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، وتاريخ تغييبه سنة ،1978 انه كان مدركا اصول التعامل مع الاعلام، وطريقة التعاطي مع وسائله وفنونه في المراحل المختلفة، في ظل التباينات الحادة التي كانت تخيم على المنطقة بعد حرب 1967 واحداث ،1969 وتأثر الساحة اللبنانية بتلك الاحداث، على مستويات العلاقة الداخلية بين الشركاء في الوطن.
ويتجلى هذا الادراك لأهمية الاعلام في خطب الامام ومداخلاته المؤيدة للحرية الاعلامية، والداعمة للصحافة في معركة الحريات اثر احالة اربع عشرة صحيفة على القضاء بسبب نشرها خبر بنقل ضابطين من الجيش في صيدا اثر استشهاد معروف سعد، واحالة سبع صحف اخرى على القضاء ايضا بسبب نشرها كلمة الامام الصدر التأبينية في معروف سعد.
ويبدو من خلال تركيزه على الحضور من خلال الصحافة، لتأسيس قاعدة سياسية وطنية ابعد من الطوائف والمناطق، ان الامام كان يمتلك رؤية اعلامية واضحة ساعدته على توضيح ارائه وتبسيط فلسفته للقضايا الحادة التي يعيشها لبنان، بسبب الاستغلال الخارجي للتناقضات القائمة على ارضه. وهذا ما جعله يحترف اصول تكوين الرأي العام من خلال اختياره عناوين خطبه ومقالاته ومداخلاته التي لاقت صدى واسعا.
مما جعله في السنوات القليلة السابقة على الحرب اللبنانية، رجل دين تلتقي على احترامه ومرجعيته الاجتماعية، فئات واسعة من اللبنانيين.
ولعل تمكنه من اصول الخطابة المنبرية وفنون الالقاء الجاذب للاسماع والاذهان، ما يسهّل التألق شعبيا واعلاميا، فأسس، "الاعلام الاستدراكي" الذي ساعده على اطلاق مواقف تحذيرية للسلطة كان لها نفع توجيهي في تربية الناس على التعاطي مع القضايا الملحة بجرأة انطلاقا من ان المواطن، شريك في الوطن، وليس هامشيا او تابعيا. وكل ما قاله في هذا الاطار لم يخرج عن فهمه قانون الحرية، من ضمن احترامه لحرية التفكير وسعيه لحماية الحق بالتعبير، مما جعله يطلق على الصحافيين عبارة (الناطقون بالحق). (مسيرة الامام السيد موسى الصدر، الوثائق ،1970 وثيقة رقم 23/3/75) لقد تمكن الامام من بناء علاقة ثقة مع الجسم الصحافي، الامر الذي ساعد على وضع اسس (اعلام اقضايا) الذي اطلقه الامام من خلال وصف حركته المطلبية بحركة (المحرومين) واطلاقه عناوين جادة تناولت غير قضية حياتية واجتماعية عاشها اناس وسكتوا عليها دهرا من التعتيم على معاناتهم ومنعهم من (الافصاح) عن وجعهم.
ومن وظائف الصحافة، في رأيه، ان تصحح المفاهيم المغلوطة، وتمسك بيد الناس نحو ما فيه خيرهم، وبذلك تلج الصحافة رسالة الشهادة للحق والتعريف بالصح من الامور، وتصحيح المعارف بحياد موضوعي وجرأة لا تقف عند المصالح الضيقة والانتماءات الخاصة.
ومن وظائف الصحافة، الى انها منبر للحقيقة، الانتصار للمظلومين والشهادة للحق خارج اعلام الاثارة والتحريض، لأن الصحافة وحرية الرأي، هما البعد الوحيد الباقي من عظمة لبنان "الذي هو ضرورة انسانية حضارية"، (مسيرة الامام الصدر، الوثائق رقم 26) وهذا ما يدفع الى العمل في سبيل اعلام مناضل في خدمة قضايا الناس، لا مرفه مشغول بغير هموم البشر وقضايا المواطنين الملحة.
ولعل نظرته الى اعلام وطني واع، انطلاقا من مرجعيته الدينية والوطنية، جعلته ينظر الى الاعلام والحريات الاعلامية "كراعية للقيم والعقائد، والدعامة الاساسية لكيان لبنان وعظمته ولاداء رسالته العربية والحضارية والانسانية" (كتاب الوثائق ص 292) معتبرا نه لا يمكنه كمواطن "ان يقف متفرجا في معركة الصحافة". متمنيا على المسؤولين الذين بنوا امجادهم وانتصاراتهم من خلال حرية الصحافة، ان يتراجعوا عن هذه الخطة". (كتاب الوثائق ص 293).
واللافت في الاعلام النقدي والبنائي الذي ظهر في كتابات السيد الصدر، انه اعلام صريح لا مضمر فيه او "مسكوت عنه"، ذلك انه شجع الصحافيين على قول كل شيء في سبيل كشف الحقائق وتربية الناس على فن "محاكمة الحقائق" والانتصار للحق.
والفكر الاعلامي لدى السيد ظهر في مقاربته الامور الحياتية والاجتماعية باسلوب جماهيري مبني على اختيار الموضوع واختيار المناسبة الافضل لطرحه. وكانت الصحف التي تلتزم النضال الاجتماعي، تتيح المجال للمظلومين للتشكي والتظلم، لكنها لم تكن مرّة، على الاقل حتى سنة ،1973 بتصرف كل المظلومين، فعمل الصدر على توجيه مسارها ودفعها الى تبني طروحات الانصاف الاجتماعي والموازنة بين القضايا السياسية والمشاكل الاجتماعية.
وفي منحى تقويمي آخر، اعتبر الصدر ان الاعلام في المجتمعات الحرة هو "نار ونور" لأنه نور يضيء ونار تحرق. وهذا القول رسم حدود المرحلة الاولى من التحرك الاجتماعي - السياسي للامام الذي راهن على الاعلام الواعي في عملية تأهيل الناس لفهم معنى الاعلام ووظائفه التعريفية والوطنية اضافة الى دوره في عملية "محو الامية" لدى المواطنين.
وثمة نقطة اساسية في عملية بناء اسس الشخصية القيادية عند الامام، هي اسقاطه مبدأ "قل كلمتك وامش" واعتماد مبدأ "قل كلمتك... وقاتل من اجلها".
وكانت ابرز المحطات الاعلامية في مسيرة السيد، تلك التي كان يطلقها من قاعات الكنائس ومنابر المساجد والصروح الاكاديمية، حيث كان يحرص ان يكون ضمير جميع اللبنانيين والمناضل في سبيل قضاياهم.
خلاصة القول ان الاعلام عند الامام الصدر، اعلام ميداني عملي، يتلمس المشاكل ويطرحها مرفقة بمشاريع حلول، وليس اعلام شعارات او اعلاما تفجيريا من دون سقف. اعلام قيادي مسؤول يعرف الامساك بمقاليد "فن الزعامة" الراقية.
"قل كلمتك وقاتل من أجلها"
د. جورج كلاّس
جريدة النهار (لبنان)
الأحد، 13 تشرين الأول / أكتوبر 2002
شكل مقاربة الفكر الاعلامي عند الامام موسى الصدر، مدخلا لفهم ركائز المنطلقات الرئيسة، التي جعلت من فهمه معنى الاعلام ودوره في المجتمعات النامية وذات النمط التعددي، حضاريا ودينيا ومستويات عيش متفاوتة، اسلوب تفكير وفن تعبير، تمايز بهما الامام عن غيره من المسؤولين في لبنان. ويظهر، لمن تابع تحرك الامام من خلال الاعلام اللبناني بين ،1969 تاريخ انتخابه رئيسا للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، وتاريخ تغييبه سنة ،1978 انه كان مدركا اصول التعامل مع الاعلام، وطريقة التعاطي مع وسائله وفنونه في المراحل المختلفة، في ظل التباينات الحادة التي كانت تخيم على المنطقة بعد حرب 1967 واحداث ،1969 وتأثر الساحة اللبنانية بتلك الاحداث، على مستويات العلاقة الداخلية بين الشركاء في الوطن.
ويتجلى هذا الادراك لأهمية الاعلام في خطب الامام ومداخلاته المؤيدة للحرية الاعلامية، والداعمة للصحافة في معركة الحريات اثر احالة اربع عشرة صحيفة على القضاء بسبب نشرها خبر بنقل ضابطين من الجيش في صيدا اثر استشهاد معروف سعد، واحالة سبع صحف اخرى على القضاء ايضا بسبب نشرها كلمة الامام الصدر التأبينية في معروف سعد.
ويبدو من خلال تركيزه على الحضور من خلال الصحافة، لتأسيس قاعدة سياسية وطنية ابعد من الطوائف والمناطق، ان الامام كان يمتلك رؤية اعلامية واضحة ساعدته على توضيح ارائه وتبسيط فلسفته للقضايا الحادة التي يعيشها لبنان، بسبب الاستغلال الخارجي للتناقضات القائمة على ارضه. وهذا ما جعله يحترف اصول تكوين الرأي العام من خلال اختياره عناوين خطبه ومقالاته ومداخلاته التي لاقت صدى واسعا.
مما جعله في السنوات القليلة السابقة على الحرب اللبنانية، رجل دين تلتقي على احترامه ومرجعيته الاجتماعية، فئات واسعة من اللبنانيين.
ولعل تمكنه من اصول الخطابة المنبرية وفنون الالقاء الجاذب للاسماع والاذهان، ما يسهّل التألق شعبيا واعلاميا، فأسس، "الاعلام الاستدراكي" الذي ساعده على اطلاق مواقف تحذيرية للسلطة كان لها نفع توجيهي في تربية الناس على التعاطي مع القضايا الملحة بجرأة انطلاقا من ان المواطن، شريك في الوطن، وليس هامشيا او تابعيا. وكل ما قاله في هذا الاطار لم يخرج عن فهمه قانون الحرية، من ضمن احترامه لحرية التفكير وسعيه لحماية الحق بالتعبير، مما جعله يطلق على الصحافيين عبارة (الناطقون بالحق). (مسيرة الامام السيد موسى الصدر، الوثائق ،1970 وثيقة رقم 23/3/75) لقد تمكن الامام من بناء علاقة ثقة مع الجسم الصحافي، الامر الذي ساعد على وضع اسس (اعلام اقضايا) الذي اطلقه الامام من خلال وصف حركته المطلبية بحركة (المحرومين) واطلاقه عناوين جادة تناولت غير قضية حياتية واجتماعية عاشها اناس وسكتوا عليها دهرا من التعتيم على معاناتهم ومنعهم من (الافصاح) عن وجعهم.
ومن وظائف الصحافة، في رأيه، ان تصحح المفاهيم المغلوطة، وتمسك بيد الناس نحو ما فيه خيرهم، وبذلك تلج الصحافة رسالة الشهادة للحق والتعريف بالصح من الامور، وتصحيح المعارف بحياد موضوعي وجرأة لا تقف عند المصالح الضيقة والانتماءات الخاصة.
ومن وظائف الصحافة، الى انها منبر للحقيقة، الانتصار للمظلومين والشهادة للحق خارج اعلام الاثارة والتحريض، لأن الصحافة وحرية الرأي، هما البعد الوحيد الباقي من عظمة لبنان "الذي هو ضرورة انسانية حضارية"، (مسيرة الامام الصدر، الوثائق رقم 26) وهذا ما يدفع الى العمل في سبيل اعلام مناضل في خدمة قضايا الناس، لا مرفه مشغول بغير هموم البشر وقضايا المواطنين الملحة.
ولعل نظرته الى اعلام وطني واع، انطلاقا من مرجعيته الدينية والوطنية، جعلته ينظر الى الاعلام والحريات الاعلامية "كراعية للقيم والعقائد، والدعامة الاساسية لكيان لبنان وعظمته ولاداء رسالته العربية والحضارية والانسانية" (كتاب الوثائق ص 292) معتبرا نه لا يمكنه كمواطن "ان يقف متفرجا في معركة الصحافة". متمنيا على المسؤولين الذين بنوا امجادهم وانتصاراتهم من خلال حرية الصحافة، ان يتراجعوا عن هذه الخطة". (كتاب الوثائق ص 293).
واللافت في الاعلام النقدي والبنائي الذي ظهر في كتابات السيد الصدر، انه اعلام صريح لا مضمر فيه او "مسكوت عنه"، ذلك انه شجع الصحافيين على قول كل شيء في سبيل كشف الحقائق وتربية الناس على فن "محاكمة الحقائق" والانتصار للحق.
والفكر الاعلامي لدى السيد ظهر في مقاربته الامور الحياتية والاجتماعية باسلوب جماهيري مبني على اختيار الموضوع واختيار المناسبة الافضل لطرحه. وكانت الصحف التي تلتزم النضال الاجتماعي، تتيح المجال للمظلومين للتشكي والتظلم، لكنها لم تكن مرّة، على الاقل حتى سنة ،1973 بتصرف كل المظلومين، فعمل الصدر على توجيه مسارها ودفعها الى تبني طروحات الانصاف الاجتماعي والموازنة بين القضايا السياسية والمشاكل الاجتماعية.
وفي منحى تقويمي آخر، اعتبر الصدر ان الاعلام في المجتمعات الحرة هو "نار ونور" لأنه نور يضيء ونار تحرق. وهذا القول رسم حدود المرحلة الاولى من التحرك الاجتماعي - السياسي للامام الذي راهن على الاعلام الواعي في عملية تأهيل الناس لفهم معنى الاعلام ووظائفه التعريفية والوطنية اضافة الى دوره في عملية "محو الامية" لدى المواطنين.
وثمة نقطة اساسية في عملية بناء اسس الشخصية القيادية عند الامام، هي اسقاطه مبدأ "قل كلمتك وامش" واعتماد مبدأ "قل كلمتك... وقاتل من اجلها".
وكانت ابرز المحطات الاعلامية في مسيرة السيد، تلك التي كان يطلقها من قاعات الكنائس ومنابر المساجد والصروح الاكاديمية، حيث كان يحرص ان يكون ضمير جميع اللبنانيين والمناضل في سبيل قضاياهم.
خلاصة القول ان الاعلام عند الامام الصدر، اعلام ميداني عملي، يتلمس المشاكل ويطرحها مرفقة بمشاريع حلول، وليس اعلام شعارات او اعلاما تفجيريا من دون سقف. اعلام قيادي مسؤول يعرف الامساك بمقاليد "فن الزعامة" الراقية.