بساط سليمان (عليه السلام)
كان داود من أنبياء الله تعالى، وكان بيده السلطة الزمنية، كما أن بيده السلطة الدينية، وكان يقضي بين الناس بالحق، فقد قال الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق).
مرّت أزمنةٌ على ذلك، لكن داود كان تعلّم أنه لابد وأن يموت فعليه أن يخلّف أحداً مكانه ليقوم مقامه في هداية الضالّ، وتعليم الجاهل، وإرشاد الغافل، وإقامة الأحكام، ليبقى الدين قائماً.
وكيف يمكن أن يذهب عن أمته بدون أن يُعين خليفةً له من بعده.
وذات مرّة أوحى الله تعالى إليه بان يخلّف على الأمّة ابنه (سليمان)، وكان سليمان (عليه السلام) في ذلك الوقت غلاماً حدث السنّ، لكنه كان أهلاً للخلافة لمكانته الدينية وفضله وتقواه، وذكائه، وفطنته، ومعرفته الحق من الباطل، والحلال من الحرام.
وقد اختار الله (سليمان) خليفة لداود، حيث علم سبحانه أن (سليمان) أهلاً لذلك، ولم يكن لداود أن يختار لنفسه خليفةً بدون إذن الله تعالى، فإن الخلافة للأنبياء، كالنبوّة لا تكون إلا بتعيين الله تعالى.
وطبيعي أن يفرح (داود) لهذا الوحي الإلهي، الموجب لامتداد النبوة والقدرة في بيته.. لكنه من الطبيعي أيضا أن يخاف إنكار أصحابه وشيوخ بني إسرائيل لخلافة ولده، وهل يرضى الشيوخ أن ينضووا تحت لواء غلام؟ وإن كان له من الفضل والنبل الشي الكثير، إضافة إلى أن الحسد دارٌ قلّما يسلم منه إنسان عادي.
* * *
وأخيراً.. أخبر (داود) بني إسرائيل بأمر الله تعالى، وأنه سبحانه جعل خليفته فيهم (سليمان).
وهنا قامت القيامة على بني إسرائيل، فضجّوا من ذلك، واستنكروا خلافة (سليمان) قائلين: وهل يستخلف (داود) علينا حدثاً، وفينا من هو أكبر منه؟ ولمّا أكثروا من اللغط والغلط والإنكار والشجب لخلافة سليمان (عليه السلام) أرسل داود (عليه السلام) إلى أسباط بني إسرائيل وشيوخهم ليكلّمهم ويناقش الموضوع وجهاً لوجه.
وقد أراد (داود) أن يدعم أمر خلافة سليمان بحجة وبرهان، لا يتمكّن أحد من إنكار تلك الحجة، ولا من مقابلة ذلك البرهان، ولذا جعل الحجة (معجزة) كما هو شأن الأنبياء، حتى يأتوا بالمعجزات إن رأوا عناد المخالف.
* * *
قال داود لشيوخ بني إسرائيل: قد بلغتني مقالتكم، وكراهتكم لتنصيب ولدي خليفةً عليكم من بعدي.. إن هذا من أمر الله، لا من أمري، فالله هو الذي يعيّن خلفاء الأنبياء، وإن أنكرتم قولي، فإليكم هذه الحجة:
أدّوني ـ يا معاشر شيوخ بني إسرائيل ـ عصيّكم، فأي عصا أثمرت وهي عودٌ يابسة، فصاحب تلك العصا هو الخليفة من بعدي، ووليّ أمر الناس.
يا لها من حجة! وهل تخضر العودة اليابسة؟ أم هل تأتي بثمرٍ؟ أليس ذلك كافياً لصدق (داود) (عليه السلام)؟ فإن إثمار العصي لا يكون إلا بأمر الله تعالى، فمن أثمرت عصاه فهو الخليفة.
اتفق الجميع على ذلك، وجاء شيوخ بني إسرائيل بعصيّهم، وقالوا لداود، رضينا بهذه الحجة.. فقال لهم (داود): ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، وجاء (سليمان) أيضاً بعصاه وكتب عليها اسمه.
ثم.. أمر (داود) أن يجعلوا تلك العصي في غرفة، فجعلوها كما أمر وأغلقوا الباب، وتبنّى حراسة الغرفة رؤوس أسباط بني إسرائيل وكبراؤهم ـ حذراً من التزوير ـ ، وبقيت العصي في الغرفة ليلة كاملة فلمّا أصبحوا صلى (داود) بهم صلاة الصبح ـ على حسب عادته كل يوم ـ ثم أقبل في حشد كبير ففتح باب الغرفة، وأخرج العصي، وإذا بإحداها مثمرة.
وهنا اشرأبت الأعناق، وامتدّت الأعين، ليروا لمن هذه العصا؟ وكل يرجوا أن تكون عصاه.. وإذا بهم يقرأون الاسم المكتوب على العصا، فيلمع اسم سليمان (عليه السلام) فهذه عصا سليمان التي أورقت وأثمرت.
سلّم شيوخ بني إسرائيل الأمر لنبي الله (سليمان) وعلموا أنه من عند الله تعالى. فلا يحق لهم بعد هذه الحجة المناقشة، وأصبح معروفاً أن (سليمان) هو الخليفة الشرعي لداود (عليه السلام).
لكن داود (عليه السلام) أراد أن يظهر للناس فضل ولده (سليمان) وأن الله سبحانه لم يمنحه هذه العطية اعتباطاً، ولذا أخذ (داود) يسأل (سليمان) أسئلة تدل أجوبتها على مقدار ذكاء ولده، وعقله وحصافته.
وكان الاختبار والتداول في محضر بني إسرائيل ورؤوس الأسباط.
فقال داود لسليمان: يا بني ما أبرد الأشياء؟
قال (سليمان): عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض.
قال (داود): يا بني ما أحلى الأشياء؟
قال (سليمان): المحبة، وهي روح الله في عباده.
فافترّ (داود) ضاحكاً، ثم قال مؤكداً: يا بني إسرائيل هذا ولدي (سليمان) خليفتي فيكم.
إن أسئلة (داود) كانت ذات وجهين، لكن ذكاء (سليمان) وفطنته أرشداه إلى وجه السؤال الحقيقي ولذا أجاب على طبق السؤال: إن برودة العفو على قلب الإنسان، أحسن من برودة الثلج، وحلاوة المحبة في روح المرء أكثر من حلاوة السكر.
ولعل في سؤالي (داود) إلماعاً إلى وجوب تفشي (العفو) و(المحبة) بين الناس لتستقيم أمورهم، وتقوى الصلات والروابط بينهم.
* * *
تزوّج (سليمان) بفتاة شريفة، وعاش في كنف والد زوجته مدة من الزمن.. وفي ذات يوم قالت الزوجة لسليمان: بأبي أنت وأمي ما أكمل خصالك، وأطيب ريحك، ولا أعلم خصلةً فيك أكرهها إلا أنّك في مؤنة أبي.
وكان لسليمان وجهة نظر في بقائه تحت رعاية أبي زوجته، كما أن الزوجة ثقلت عليها نفقة أبيها.
ثم قالت الزوجة لسليمان: فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق الله رجوت أن لا يخيبك. وكان قصدها أن يحصل زوجها على رزق الله مباشرة، دون إعالة (داود) أو إعالة أبيها.
مضى سليمان، ذات يوم إلى ساحل البحر، فرأى صيّاداً يصيد السمك، فقال له: هل تحب أن أساعدك في مهمتك بأجرة تدفعها لي؟
رحّب الصيّاد بسليمان ـ وهو لا يعرفه ـ فأخذ سليمان يعاونه حتى إذا فرغ الصياد، قدّم لسليمان (عليه السلام) ـ سمكتين ـ أجرة لعمله.
فشكر سليمان الله تعالى، وأخذ السمكتين، ولما شقّ بطن إحداهما، وجد في جوفها خاتماً! ففرح بالخاتم، فرحاً كثيراً، لقد ساقه الله سبحانه إليه، ليجعل في ذلك الخاتم سر عظمة ملك سليمان، وتسخير كل شيء له.
* * *
إن الله سبحانه تفضّل على (داود) و(سليمان) فأعطاهما النبوة، والخلافة في الأرض، والسيطرة والسلطة (ولقد آتينا داود وسليمان علماً) فهما عرفا هذا الفضل لله تعالى وشكراه في مقابل هذه النعمة العظيمة فـ(قالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين). وقد أعلم (سليمان) الناس بما منحه الله تعالى، زيادةً في الشكر (فإن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمةٍ أحب أن يرى أثرها فيه)(1) (
(وورث سليمان داود) ورثه في إرثه الشخصي، كما ورثه في علمه وحكمته وسلطته (وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير) فكان سليمان (عليه السلام) يعرف كلام الطيور، فإذا تكلّم ببغاء أو عصفور أو حمام أو هدهد أو غيرها من سائر الطيور، لآخر من بني جنسه، سمع سليمان كلامها وعرف معنى الكلام.
إنه (عليه السلام) لم يكن يعرف منطق الطير فقط، بل كان يعرف منطق سائر الحيوانات.. كما أن الله سبحانه سخّر لسليمان الريح، فكانت تحمله، كما تحمل الطائرة أحدنا.. وكان سليمان قد سخّر له (الجن) فكان الجن يعملون بأمره، إلى غيرها من النعم الكثيرة التي منحها الله سبحانه لسليمان تفضّلاً، ولذا قال سليمان لقومه ـ حيث كان يذكر فضل الله عليه ـ : (وأُوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين).
* * *
وقد كان لسليمان جلالة عظيمة، فقد دعا الله سبحانه قائلاً: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) فاستجاب الله دعاءه وأعطاه الملك العظيم وكان من ذلك الملك العظيم (بساط سليمان).
وكان سليمان مع ذلك في منتهى التواضع والزهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهداً في زخارف الدنيا.
وكان إذا أقبل الليل يشد يده في عنقه ـ تواضعاً لله تعالى ـ ويقف في محراب عبادته مصلّياً باكياً خاشعاً، حتى الصباح.
وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: (مسكين مع المساكين). وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثم يبيعها ويأكل من ثمنها. وإنما طلب الملك ليقوى به على الكفار وينشر في الأرض التوحيد، ويأخذ للمظلوم من الظالم.
أما بساط سليمان فهو شيء عجيب، لا تبلغه أكبر الطائرات والصواريخ المكتشفة في زماننا هذا. فكان يجلس أحياناً على بساطه، وعن يمينه ثلاثمائة ألف كرسي عليها الإنس، وعن يساره ثلاثمائة ألف كرسي عليها الجن، وكانت تأتي الطيور فتصفّ بأجنحتها على ذلك البساط الممتد حتى لا يؤذيها حر الشمس، ثم يرتفع هذا البساط المهيب في أجواء السماء.
* * *
ولسليمان (عليه السلام) قصص شيقة مع الحيوانات:
فذات مرة تحيّرت (القبرة) أين تبيض، فسألها ذكرها: أين تريدين أن تبيضي؟ فقالت الأنثى: لا أدري.. أنحيه عن الطريق ـ وكان ذلك لخوفها أن يصيب المارّة البيض في الطريق فيفسدوه ـ .
فقال الذكر: إني أخاف أن يمر بك مارٌ في الطريق.. وبعد لأي وجد الذكر والأنثى مكاناً مناسباً للبيض فباضت الأنثى وحضنت البيض حتى قرب الفقس.
فبينما هما كذلك طلع سليمان (عليه السلام) في جنوده والطير يظله فاضطربت الأنثى خوفاً من أن ينزل سليمان بجنوده فيدوسوا بيضها، فقالت للذكر: هذا سليمان قد طلع علينا بجنوده، ولا آمن أن يحطّمنا ويحطّم بيضنا؟
أجاب الذكر: إن سليمان لرجل رحيم لا يفعل ذلك.
ثم قرّر أن يقدّم كل واحد من الذكر والأنثى هديّة إلى (سليمان) استعطافاً له، وجلباً لانتباهه إلى مكانهما. فأخذ الذكر تمرةً في منقاره، وأخذت الأنثى جرادة في رجلها، وجاءا بالهديّة إلى سليمان.. فلمّا رآهما سليمان ـ وهو على عرشه ـ بسط لهما يديه فوقع الذكر في كفّه اليمنى، ووقعت الأنثى في كفة اليسرى فقدّما له الهدية، وأمر جنده أن يتجنّبوا محل بيضهما، ودعا لهما بالبركة ومسح سليمان تعطفاً على رأسيهما. ومن أثر يد سليمان أحدث الله (القنزعة) مثل التاج على رأس القبّرة.
جاءت سليمان يوم العرض قبّرةٌ تهدي إليه جراداً كان في فيها
فاستقبلته وقالت وهي ضاحــكةٌ إن الهدايا على مقــدار مهديها
* * *
وذات مرة حدثت قصة جميلة بين سليمان ونملة:
فقد أتى جمع (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) يجلس أوّلهم لآخرهم، حتى يجتمع الكل فيركبوا البساط، ويسيروا في الهواء أينما شاءوا.
وكان من شأن (البساط) أنه يسير في الفضاء صباحاً مقدار ثلاثين يوماً إذا أراد أن يسير فيها السائر العادي، وكذلك كان البساط يقطع مثل هذه المسافة، في المساء.
فسار البساط، وعليه سليمان وجنوده، والطير صافّات فوقهم (حتى إذا أتوا على وادِ النمل) وكان محلاً كثير النمل، من مدينة (الطائف) أو مدينة (الشام).
هناك نظرت نملة إلى بساط سليمان، فخافت إن نزل، أن يحطم النمل، سليمان وجنوده، ولذا قالت محذّرة سائر النمل: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) في أجواف الأرض (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فإن الإنسان لا يشعر بوجود النملة تحت رجله.
وشاء الله تعالى أن يسمع سليمان كلام النملة (فتبسم) سليمان (ضاحكاً من قولها) كيف تتحفظ على بني نوعها، وتجنبهم الأخطار.
ثم توجه سليمان إلى ربه في ضراعة، قائلاً: (رب أوزعني) أي وفقني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليه وعلى والديَّ) ووفقني (أن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني) يا رب (برحمتك في عبادك الصالحين).
* * *
ومرّة أخرى سمع سليمان (عليه السلام) حواراً بين (عصفورٍ) و(عصفورةٍ) فقد كانت الأنثى تمنع نفسها عن معاشرة الذكر، فقال الذكر ـ مبيّنا قوّته لأنثاه ـ : لو شئت أخذت قبّة سليمان فألقيتها في البحر.
فعجب سليمان من كلام العصفور، وتبسم ضاحكاً.
ثم إن سليمان طلب العصفورين، وقال للعصفور: هل تطيق أن تفعل ما قلته للعصفورة، من إلقاء قبتي في البحر؟
قال العصفور: لا يا نبي الله، ولكن المرء قد يزين نفسه عند زوجته، والمحب لا يلام على ما يقول.
ثم توجه سليمان إلى العصفورة، قائلاً:
لم تفرّين من زوجك، وهو يحبك؟
قالت العصفورة: يا نبي الله، إن زوجي لا يحبني، وإنما هو يدّعي ذلك، والدليل على أنه لا يحبني، أنه يحب غيري.
هنا جاشت في نفس سليمان الخواطر الإلهية، فكيف يمكن أن يدّعي محبة الله، من يحب غير الله،؟ إن عصفورة صغيرة تعرف أن محبتين لا يجتمعان في قلب واحد، فكيف يقول الإنسان إني أحب الله، وهو يحب الدنيا؟ وهل يمكن أن تجتمع في قلب الإنسان محبتان: محبة الله ومحبة الدنيا؟
ولذا تأثر سليمان بكلام العصفورة، وبكى بكاءً شديداً، وأخذ يدعو الله سبحانه أن يملأ قلبه من محبته، ويفرغ قلبه من محبة ما سواه.
* * *
وفي يوم من الأيام كان سليمان (عليه السلام) جالساً، مع أصحابه، فصاحت الطيور، ففسر كلامها لأصحابه، حتى يعلموا أن كل طير يقول قولاً، وليست صيحات الطيور أصواتاً فارغة.
صاح (ورشان) فقال سليمان: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت (فاختة) فقال سليمان: تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.
وصاح (طاووس) فقال سليمان: يقول: كما تدين تدان.
وصاح (هدهد) فقال سليمان: يقول: من لا يَرحم لا يُرحم.
وصاح (صرد) فقال سليمان: يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
وصاح (طوطن) فقال سليمان: يقول: كل حي ميّت، وكلّ جديد بال.
وصاح (خطّاف) فقال سليمان: يقول: قدّموا ضراً تجدوه.
وهدلت (حمامةٌ) فقال سليمان: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سماواته وأرضه.
وصاح (قمري) فقال سليمان: يقول: سبحان ربي الأعلى.
ثم.. إن سليمان (عليه السلام)، نشر لأصحابه كلام بعض الطيور الأخرى التي لم تكن حاضرة فقال (عليه السلام):
الغراب، يدعو على العشّارين.
والحدا، يقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
والقطا، يقول: من سكت سلم.
والطائر الأخضر، يقول: ويلٌ لمن الدنيا همّه.
والباز، يقول: سبحان ربي وبحمده.
والدراج، يقول: الرحمان على العرش استوى.
وهذا الكلام الشيّق من سليمان فتح على أصحابه أبواب المعرفة، كما كان هذا الكلام فاتحة خير للبشر، حيث عرفوا أن الحيوانات تتكلم، وأخذوا يبحثون للتوصل إلى معرفة كلام الحيوانات(2) (
* * *
وذات مرة كان سليمان (عليه السلام) جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملةٍ تحمل حبّة قمحٍ تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء وفتحت فاها، فدخلت النملة في فمها، وغاصت الضفدعة في البحر.
فدهش سليمان لهذا الحادث وأخذ يفكر متعجباً!
فلم يمر زمان حتى رأى سليمان الضفدعة تخرج من الماء، ثم فتحت فاها، وخرجت النملة من فمها، وليست معها حبّة الحنطة.
هنالك، دعا سليمان النملة، ليستفسرها عن الخبر؟
أجابت النملة: يا رسول الله، إن في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء قد خلقها الله هنالك، وهي لا تقدر على رزقها، وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وهذه الضفدعة مأمورة أن تحملني إليها، فإذا وصلنا إلى الدودة، وضعت الضفدعة فمها على ثقب الصخرة، فأدخلها ـ وأنا آمنة من البلل ـ فألقم الدودة رزقها، ثم أخرج إلى فم الضفدعة لتردني إلى الجرف.
قال سليمان ـ وهو متعجب من فضل الله سبحانه في حكمته ـ : وهل سمعت أيتها النملة، من الدودة تسبيحة؟
قالت النملة: نعم.
إنها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة، برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحتمك).
وقد كان في هذه القصة الطريفة تصديق لقول الله تعالى في القرآن الحكيم: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها).
وكذلك في هذه القصة تصديق لقول الله سبحانه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
كما أن فيها عبرة للإنسان وذكرى له: إنه لا ينبغي للحريص أن يعصي الله تعالى لتحصيل رزقه، كما يكون بعض الناس هكذا يرابون، ويغشون، ويسرقون، ويحتكرون، ويأكلون أموال الناس ظلماً، ويمنعون حقوق الله عدواناً.. كل ذلك ظنّاً منهم أن تلك الأعمال هي التي توفر لهم المعيشة، وهي التي تهيئ لهم الرزق.
ولذا قال القرآن الحكيم، تنديداً بهم: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). إن من لا ينسى دودة عمياء في جوف صخرة صمّاء، تحت مياه ظلماء، كيف ينسى الإنسان؟ وهل يمكن أن يحتاج الإنسان، لرزقه، إلى عمل الحرام؟ كلا! فمن خلق الإنسان يعطي ويرزق.
* * *
لقد كان (لسليمان الريح عاصفة) فكانت تعصف لتحمل بساط سليمان إلى حيث يشاء، فكانت الريح (تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) أي جعلنا فيها البركة بإرسال الأنبياء، وبكثرة الثمار والأشجار والأنهار، وعذوبة الهواء ـ وهي أرض الشام، كما في بعض التفاسير ـ .
(وكنّا بكل شيء عالمين) ومن علمنا وحكمتنا أعطينا سليمان هذا البساط ليعرف الناس بعض قدرة الله تعالى، وليروا آثار ملكه.
(و) سخّرنا له (من الشياطين) والجِنة(3) ( (من يغوصون له) في أعماق البحار ليخرجوا الدّر واللؤلؤ والمرجان وسائر الأحجار الكريمة الموجودة في أعماق البحار.
والشيطان والجنّ هنا بمعنى واحد: فإنه جسمٌ لطيف لا تراه العين المجرّدة، يسمّى شيطاناً لشيطنته وسرعة تقلّبه في الأمور، كما يسمّى (جنّاً) لستره عن الأبصار(4) (
(ويعملون عملاً دون ذلك) أي اسهل من الغوص في أعماق البحار البعيدة (وكنّا لهم) أي للشياطين (حافظين) لئلا يهربوا من سليمان أو يفسدوا عليه.. (و) قد كانوا يعملون له ما يشاء من (محاريب) للعبادة (وتماثيل) أي بمثال الأشجار وما أشبه (وجفان) جمع جفنة، وهي الآنية الكبيرة (كالجواب) أي كانت كل جفنة كالحوض الكبير، فإن (جواب) جمع جابية، وهي الحوض الكبير (وقدور راسيات) ثابتات في الأرض، القدور لأجل طبخ الطعام للجيش والناس، والجفان لأجل الإطعام (وأسلنا له عين القطر) أي أذبنا لسليمان عين النحاس، فكان كالماء المذاب، يصنعون به ما يشاءون.
وربما كان الجن يهربون من سليمان أو يريدون الإفساد، فـ(من يزغ) وينحرف (منهم) أي من أولئك الجن المسخرين لسليمان (عليه السلام) (عن أمرنا) فقد كان سبحانه أمر الجن بإطاعة سليمان (نذقه من عذاب السعير) فقد ورد أن الله سبحانه وكّل بالجن العاملين لسليمان، ملكاً بيده سوطٌ من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان، ضربه ضربةٌ تحرقه.
وبعد ما أنعم الله تعالى، لسليمان بهذه النعم العظيمة، وكذلك أنعم على أقربائــه، بنعمة سليمان، ونعمة داود، قال لهم: (اعملوا آل داود شكراً).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كانوا ثمانين رجلاً، وسبعين امرأة، ما اغب المحراب رجلٌ واحدٌ منهم يصلّي فيه)(5) ( فلم يكونوا يتركون المحراب والصلاة فيه، بل كانوا دائمي العبادة والطاعة.
وعمل الشكر؛ أعمّ من الشكر باللّسان، وإظهار الطاعة بالجوارح، والعقيدة الراسخة في القلب، بالنسبة إلى الله تعالى ولطفه، جميل صنعه.
* * *
قد عرفت في هذه القصّة الشيّقة كيف كان سليمان (عليه السلام) نبيّا عظيماً، وملكاً، وزاهداً.
ولعل من أسرار جمع الله لسليمان بين النبوة والملك، تعليم الملوك، وهداية المهتدين: أن لا منافاة بين الدنيا والدين، فرجل الدين يتمكّن أن يدير البلاد، ورجل الملك يتمكن أن يرشد الناس.
وقد كان يوسف الصديق (عليه السلام)، أيضاً نبّياً وملكاً، وكان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً ويدير أمن البلاد ويصلح شأن الدنيا.
أمّا معجزات سليمان، وما أوتي من القوة والقدرة، وتسخير الجن وما أشبه ذلك.. فكلّها هيّنة بالنسبة إلى قدرة الله تعالى، إنه سبحانه الخالق القادر الذي بيده كل مفتاح، وهو على كل شيء قدير، وقد شاءت حكمته أن يجعل مقاليد بعض أجزاء الكون في يد نبيه سليمان (عليه السلام) ليكون آية لنبوّته، كما كانت ناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ونار إبراهيم عليهم السلام، آيات دالّة على صدق نبوة هؤلاء الأنبياء.
كان داود من أنبياء الله تعالى، وكان بيده السلطة الزمنية، كما أن بيده السلطة الدينية، وكان يقضي بين الناس بالحق، فقد قال الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق).
مرّت أزمنةٌ على ذلك، لكن داود كان تعلّم أنه لابد وأن يموت فعليه أن يخلّف أحداً مكانه ليقوم مقامه في هداية الضالّ، وتعليم الجاهل، وإرشاد الغافل، وإقامة الأحكام، ليبقى الدين قائماً.
وكيف يمكن أن يذهب عن أمته بدون أن يُعين خليفةً له من بعده.
وذات مرّة أوحى الله تعالى إليه بان يخلّف على الأمّة ابنه (سليمان)، وكان سليمان (عليه السلام) في ذلك الوقت غلاماً حدث السنّ، لكنه كان أهلاً للخلافة لمكانته الدينية وفضله وتقواه، وذكائه، وفطنته، ومعرفته الحق من الباطل، والحلال من الحرام.
وقد اختار الله (سليمان) خليفة لداود، حيث علم سبحانه أن (سليمان) أهلاً لذلك، ولم يكن لداود أن يختار لنفسه خليفةً بدون إذن الله تعالى، فإن الخلافة للأنبياء، كالنبوّة لا تكون إلا بتعيين الله تعالى.
وطبيعي أن يفرح (داود) لهذا الوحي الإلهي، الموجب لامتداد النبوة والقدرة في بيته.. لكنه من الطبيعي أيضا أن يخاف إنكار أصحابه وشيوخ بني إسرائيل لخلافة ولده، وهل يرضى الشيوخ أن ينضووا تحت لواء غلام؟ وإن كان له من الفضل والنبل الشي الكثير، إضافة إلى أن الحسد دارٌ قلّما يسلم منه إنسان عادي.
* * *
وأخيراً.. أخبر (داود) بني إسرائيل بأمر الله تعالى، وأنه سبحانه جعل خليفته فيهم (سليمان).
وهنا قامت القيامة على بني إسرائيل، فضجّوا من ذلك، واستنكروا خلافة (سليمان) قائلين: وهل يستخلف (داود) علينا حدثاً، وفينا من هو أكبر منه؟ ولمّا أكثروا من اللغط والغلط والإنكار والشجب لخلافة سليمان (عليه السلام) أرسل داود (عليه السلام) إلى أسباط بني إسرائيل وشيوخهم ليكلّمهم ويناقش الموضوع وجهاً لوجه.
وقد أراد (داود) أن يدعم أمر خلافة سليمان بحجة وبرهان، لا يتمكّن أحد من إنكار تلك الحجة، ولا من مقابلة ذلك البرهان، ولذا جعل الحجة (معجزة) كما هو شأن الأنبياء، حتى يأتوا بالمعجزات إن رأوا عناد المخالف.
* * *
قال داود لشيوخ بني إسرائيل: قد بلغتني مقالتكم، وكراهتكم لتنصيب ولدي خليفةً عليكم من بعدي.. إن هذا من أمر الله، لا من أمري، فالله هو الذي يعيّن خلفاء الأنبياء، وإن أنكرتم قولي، فإليكم هذه الحجة:
أدّوني ـ يا معاشر شيوخ بني إسرائيل ـ عصيّكم، فأي عصا أثمرت وهي عودٌ يابسة، فصاحب تلك العصا هو الخليفة من بعدي، ووليّ أمر الناس.
يا لها من حجة! وهل تخضر العودة اليابسة؟ أم هل تأتي بثمرٍ؟ أليس ذلك كافياً لصدق (داود) (عليه السلام)؟ فإن إثمار العصي لا يكون إلا بأمر الله تعالى، فمن أثمرت عصاه فهو الخليفة.
اتفق الجميع على ذلك، وجاء شيوخ بني إسرائيل بعصيّهم، وقالوا لداود، رضينا بهذه الحجة.. فقال لهم (داود): ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، وجاء (سليمان) أيضاً بعصاه وكتب عليها اسمه.
ثم.. أمر (داود) أن يجعلوا تلك العصي في غرفة، فجعلوها كما أمر وأغلقوا الباب، وتبنّى حراسة الغرفة رؤوس أسباط بني إسرائيل وكبراؤهم ـ حذراً من التزوير ـ ، وبقيت العصي في الغرفة ليلة كاملة فلمّا أصبحوا صلى (داود) بهم صلاة الصبح ـ على حسب عادته كل يوم ـ ثم أقبل في حشد كبير ففتح باب الغرفة، وأخرج العصي، وإذا بإحداها مثمرة.
وهنا اشرأبت الأعناق، وامتدّت الأعين، ليروا لمن هذه العصا؟ وكل يرجوا أن تكون عصاه.. وإذا بهم يقرأون الاسم المكتوب على العصا، فيلمع اسم سليمان (عليه السلام) فهذه عصا سليمان التي أورقت وأثمرت.
سلّم شيوخ بني إسرائيل الأمر لنبي الله (سليمان) وعلموا أنه من عند الله تعالى. فلا يحق لهم بعد هذه الحجة المناقشة، وأصبح معروفاً أن (سليمان) هو الخليفة الشرعي لداود (عليه السلام).
لكن داود (عليه السلام) أراد أن يظهر للناس فضل ولده (سليمان) وأن الله سبحانه لم يمنحه هذه العطية اعتباطاً، ولذا أخذ (داود) يسأل (سليمان) أسئلة تدل أجوبتها على مقدار ذكاء ولده، وعقله وحصافته.
وكان الاختبار والتداول في محضر بني إسرائيل ورؤوس الأسباط.
فقال داود لسليمان: يا بني ما أبرد الأشياء؟
قال (سليمان): عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض.
قال (داود): يا بني ما أحلى الأشياء؟
قال (سليمان): المحبة، وهي روح الله في عباده.
فافترّ (داود) ضاحكاً، ثم قال مؤكداً: يا بني إسرائيل هذا ولدي (سليمان) خليفتي فيكم.
إن أسئلة (داود) كانت ذات وجهين، لكن ذكاء (سليمان) وفطنته أرشداه إلى وجه السؤال الحقيقي ولذا أجاب على طبق السؤال: إن برودة العفو على قلب الإنسان، أحسن من برودة الثلج، وحلاوة المحبة في روح المرء أكثر من حلاوة السكر.
ولعل في سؤالي (داود) إلماعاً إلى وجوب تفشي (العفو) و(المحبة) بين الناس لتستقيم أمورهم، وتقوى الصلات والروابط بينهم.
* * *
تزوّج (سليمان) بفتاة شريفة، وعاش في كنف والد زوجته مدة من الزمن.. وفي ذات يوم قالت الزوجة لسليمان: بأبي أنت وأمي ما أكمل خصالك، وأطيب ريحك، ولا أعلم خصلةً فيك أكرهها إلا أنّك في مؤنة أبي.
وكان لسليمان وجهة نظر في بقائه تحت رعاية أبي زوجته، كما أن الزوجة ثقلت عليها نفقة أبيها.
ثم قالت الزوجة لسليمان: فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق الله رجوت أن لا يخيبك. وكان قصدها أن يحصل زوجها على رزق الله مباشرة، دون إعالة (داود) أو إعالة أبيها.
مضى سليمان، ذات يوم إلى ساحل البحر، فرأى صيّاداً يصيد السمك، فقال له: هل تحب أن أساعدك في مهمتك بأجرة تدفعها لي؟
رحّب الصيّاد بسليمان ـ وهو لا يعرفه ـ فأخذ سليمان يعاونه حتى إذا فرغ الصياد، قدّم لسليمان (عليه السلام) ـ سمكتين ـ أجرة لعمله.
فشكر سليمان الله تعالى، وأخذ السمكتين، ولما شقّ بطن إحداهما، وجد في جوفها خاتماً! ففرح بالخاتم، فرحاً كثيراً، لقد ساقه الله سبحانه إليه، ليجعل في ذلك الخاتم سر عظمة ملك سليمان، وتسخير كل شيء له.
* * *
إن الله سبحانه تفضّل على (داود) و(سليمان) فأعطاهما النبوة، والخلافة في الأرض، والسيطرة والسلطة (ولقد آتينا داود وسليمان علماً) فهما عرفا هذا الفضل لله تعالى وشكراه في مقابل هذه النعمة العظيمة فـ(قالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين). وقد أعلم (سليمان) الناس بما منحه الله تعالى، زيادةً في الشكر (فإن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمةٍ أحب أن يرى أثرها فيه)(1) (
(وورث سليمان داود) ورثه في إرثه الشخصي، كما ورثه في علمه وحكمته وسلطته (وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير) فكان سليمان (عليه السلام) يعرف كلام الطيور، فإذا تكلّم ببغاء أو عصفور أو حمام أو هدهد أو غيرها من سائر الطيور، لآخر من بني جنسه، سمع سليمان كلامها وعرف معنى الكلام.
إنه (عليه السلام) لم يكن يعرف منطق الطير فقط، بل كان يعرف منطق سائر الحيوانات.. كما أن الله سبحانه سخّر لسليمان الريح، فكانت تحمله، كما تحمل الطائرة أحدنا.. وكان سليمان قد سخّر له (الجن) فكان الجن يعملون بأمره، إلى غيرها من النعم الكثيرة التي منحها الله سبحانه لسليمان تفضّلاً، ولذا قال سليمان لقومه ـ حيث كان يذكر فضل الله عليه ـ : (وأُوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين).
* * *
وقد كان لسليمان جلالة عظيمة، فقد دعا الله سبحانه قائلاً: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) فاستجاب الله دعاءه وأعطاه الملك العظيم وكان من ذلك الملك العظيم (بساط سليمان).
وكان سليمان مع ذلك في منتهى التواضع والزهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهداً في زخارف الدنيا.
وكان إذا أقبل الليل يشد يده في عنقه ـ تواضعاً لله تعالى ـ ويقف في محراب عبادته مصلّياً باكياً خاشعاً، حتى الصباح.
وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: (مسكين مع المساكين). وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثم يبيعها ويأكل من ثمنها. وإنما طلب الملك ليقوى به على الكفار وينشر في الأرض التوحيد، ويأخذ للمظلوم من الظالم.
أما بساط سليمان فهو شيء عجيب، لا تبلغه أكبر الطائرات والصواريخ المكتشفة في زماننا هذا. فكان يجلس أحياناً على بساطه، وعن يمينه ثلاثمائة ألف كرسي عليها الإنس، وعن يساره ثلاثمائة ألف كرسي عليها الجن، وكانت تأتي الطيور فتصفّ بأجنحتها على ذلك البساط الممتد حتى لا يؤذيها حر الشمس، ثم يرتفع هذا البساط المهيب في أجواء السماء.
* * *
ولسليمان (عليه السلام) قصص شيقة مع الحيوانات:
فذات مرة تحيّرت (القبرة) أين تبيض، فسألها ذكرها: أين تريدين أن تبيضي؟ فقالت الأنثى: لا أدري.. أنحيه عن الطريق ـ وكان ذلك لخوفها أن يصيب المارّة البيض في الطريق فيفسدوه ـ .
فقال الذكر: إني أخاف أن يمر بك مارٌ في الطريق.. وبعد لأي وجد الذكر والأنثى مكاناً مناسباً للبيض فباضت الأنثى وحضنت البيض حتى قرب الفقس.
فبينما هما كذلك طلع سليمان (عليه السلام) في جنوده والطير يظله فاضطربت الأنثى خوفاً من أن ينزل سليمان بجنوده فيدوسوا بيضها، فقالت للذكر: هذا سليمان قد طلع علينا بجنوده، ولا آمن أن يحطّمنا ويحطّم بيضنا؟
أجاب الذكر: إن سليمان لرجل رحيم لا يفعل ذلك.
ثم قرّر أن يقدّم كل واحد من الذكر والأنثى هديّة إلى (سليمان) استعطافاً له، وجلباً لانتباهه إلى مكانهما. فأخذ الذكر تمرةً في منقاره، وأخذت الأنثى جرادة في رجلها، وجاءا بالهديّة إلى سليمان.. فلمّا رآهما سليمان ـ وهو على عرشه ـ بسط لهما يديه فوقع الذكر في كفّه اليمنى، ووقعت الأنثى في كفة اليسرى فقدّما له الهدية، وأمر جنده أن يتجنّبوا محل بيضهما، ودعا لهما بالبركة ومسح سليمان تعطفاً على رأسيهما. ومن أثر يد سليمان أحدث الله (القنزعة) مثل التاج على رأس القبّرة.
جاءت سليمان يوم العرض قبّرةٌ تهدي إليه جراداً كان في فيها
فاستقبلته وقالت وهي ضاحــكةٌ إن الهدايا على مقــدار مهديها
* * *
وذات مرة حدثت قصة جميلة بين سليمان ونملة:
فقد أتى جمع (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) يجلس أوّلهم لآخرهم، حتى يجتمع الكل فيركبوا البساط، ويسيروا في الهواء أينما شاءوا.
وكان من شأن (البساط) أنه يسير في الفضاء صباحاً مقدار ثلاثين يوماً إذا أراد أن يسير فيها السائر العادي، وكذلك كان البساط يقطع مثل هذه المسافة، في المساء.
فسار البساط، وعليه سليمان وجنوده، والطير صافّات فوقهم (حتى إذا أتوا على وادِ النمل) وكان محلاً كثير النمل، من مدينة (الطائف) أو مدينة (الشام).
هناك نظرت نملة إلى بساط سليمان، فخافت إن نزل، أن يحطم النمل، سليمان وجنوده، ولذا قالت محذّرة سائر النمل: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) في أجواف الأرض (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فإن الإنسان لا يشعر بوجود النملة تحت رجله.
وشاء الله تعالى أن يسمع سليمان كلام النملة (فتبسم) سليمان (ضاحكاً من قولها) كيف تتحفظ على بني نوعها، وتجنبهم الأخطار.
ثم توجه سليمان إلى ربه في ضراعة، قائلاً: (رب أوزعني) أي وفقني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليه وعلى والديَّ) ووفقني (أن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني) يا رب (برحمتك في عبادك الصالحين).
* * *
ومرّة أخرى سمع سليمان (عليه السلام) حواراً بين (عصفورٍ) و(عصفورةٍ) فقد كانت الأنثى تمنع نفسها عن معاشرة الذكر، فقال الذكر ـ مبيّنا قوّته لأنثاه ـ : لو شئت أخذت قبّة سليمان فألقيتها في البحر.
فعجب سليمان من كلام العصفور، وتبسم ضاحكاً.
ثم إن سليمان طلب العصفورين، وقال للعصفور: هل تطيق أن تفعل ما قلته للعصفورة، من إلقاء قبتي في البحر؟
قال العصفور: لا يا نبي الله، ولكن المرء قد يزين نفسه عند زوجته، والمحب لا يلام على ما يقول.
ثم توجه سليمان إلى العصفورة، قائلاً:
لم تفرّين من زوجك، وهو يحبك؟
قالت العصفورة: يا نبي الله، إن زوجي لا يحبني، وإنما هو يدّعي ذلك، والدليل على أنه لا يحبني، أنه يحب غيري.
هنا جاشت في نفس سليمان الخواطر الإلهية، فكيف يمكن أن يدّعي محبة الله، من يحب غير الله،؟ إن عصفورة صغيرة تعرف أن محبتين لا يجتمعان في قلب واحد، فكيف يقول الإنسان إني أحب الله، وهو يحب الدنيا؟ وهل يمكن أن تجتمع في قلب الإنسان محبتان: محبة الله ومحبة الدنيا؟
ولذا تأثر سليمان بكلام العصفورة، وبكى بكاءً شديداً، وأخذ يدعو الله سبحانه أن يملأ قلبه من محبته، ويفرغ قلبه من محبة ما سواه.
* * *
وفي يوم من الأيام كان سليمان (عليه السلام) جالساً، مع أصحابه، فصاحت الطيور، ففسر كلامها لأصحابه، حتى يعلموا أن كل طير يقول قولاً، وليست صيحات الطيور أصواتاً فارغة.
صاح (ورشان) فقال سليمان: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت (فاختة) فقال سليمان: تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.
وصاح (طاووس) فقال سليمان: يقول: كما تدين تدان.
وصاح (هدهد) فقال سليمان: يقول: من لا يَرحم لا يُرحم.
وصاح (صرد) فقال سليمان: يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
وصاح (طوطن) فقال سليمان: يقول: كل حي ميّت، وكلّ جديد بال.
وصاح (خطّاف) فقال سليمان: يقول: قدّموا ضراً تجدوه.
وهدلت (حمامةٌ) فقال سليمان: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سماواته وأرضه.
وصاح (قمري) فقال سليمان: يقول: سبحان ربي الأعلى.
ثم.. إن سليمان (عليه السلام)، نشر لأصحابه كلام بعض الطيور الأخرى التي لم تكن حاضرة فقال (عليه السلام):
الغراب، يدعو على العشّارين.
والحدا، يقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
والقطا، يقول: من سكت سلم.
والطائر الأخضر، يقول: ويلٌ لمن الدنيا همّه.
والباز، يقول: سبحان ربي وبحمده.
والدراج، يقول: الرحمان على العرش استوى.
وهذا الكلام الشيّق من سليمان فتح على أصحابه أبواب المعرفة، كما كان هذا الكلام فاتحة خير للبشر، حيث عرفوا أن الحيوانات تتكلم، وأخذوا يبحثون للتوصل إلى معرفة كلام الحيوانات(2) (
* * *
وذات مرة كان سليمان (عليه السلام) جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملةٍ تحمل حبّة قمحٍ تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء وفتحت فاها، فدخلت النملة في فمها، وغاصت الضفدعة في البحر.
فدهش سليمان لهذا الحادث وأخذ يفكر متعجباً!
فلم يمر زمان حتى رأى سليمان الضفدعة تخرج من الماء، ثم فتحت فاها، وخرجت النملة من فمها، وليست معها حبّة الحنطة.
هنالك، دعا سليمان النملة، ليستفسرها عن الخبر؟
أجابت النملة: يا رسول الله، إن في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء قد خلقها الله هنالك، وهي لا تقدر على رزقها، وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وهذه الضفدعة مأمورة أن تحملني إليها، فإذا وصلنا إلى الدودة، وضعت الضفدعة فمها على ثقب الصخرة، فأدخلها ـ وأنا آمنة من البلل ـ فألقم الدودة رزقها، ثم أخرج إلى فم الضفدعة لتردني إلى الجرف.
قال سليمان ـ وهو متعجب من فضل الله سبحانه في حكمته ـ : وهل سمعت أيتها النملة، من الدودة تسبيحة؟
قالت النملة: نعم.
إنها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة، برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحتمك).
وقد كان في هذه القصة الطريفة تصديق لقول الله تعالى في القرآن الحكيم: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها).
وكذلك في هذه القصة تصديق لقول الله سبحانه: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
كما أن فيها عبرة للإنسان وذكرى له: إنه لا ينبغي للحريص أن يعصي الله تعالى لتحصيل رزقه، كما يكون بعض الناس هكذا يرابون، ويغشون، ويسرقون، ويحتكرون، ويأكلون أموال الناس ظلماً، ويمنعون حقوق الله عدواناً.. كل ذلك ظنّاً منهم أن تلك الأعمال هي التي توفر لهم المعيشة، وهي التي تهيئ لهم الرزق.
ولذا قال القرآن الحكيم، تنديداً بهم: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). إن من لا ينسى دودة عمياء في جوف صخرة صمّاء، تحت مياه ظلماء، كيف ينسى الإنسان؟ وهل يمكن أن يحتاج الإنسان، لرزقه، إلى عمل الحرام؟ كلا! فمن خلق الإنسان يعطي ويرزق.
* * *
لقد كان (لسليمان الريح عاصفة) فكانت تعصف لتحمل بساط سليمان إلى حيث يشاء، فكانت الريح (تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) أي جعلنا فيها البركة بإرسال الأنبياء، وبكثرة الثمار والأشجار والأنهار، وعذوبة الهواء ـ وهي أرض الشام، كما في بعض التفاسير ـ .
(وكنّا بكل شيء عالمين) ومن علمنا وحكمتنا أعطينا سليمان هذا البساط ليعرف الناس بعض قدرة الله تعالى، وليروا آثار ملكه.
(و) سخّرنا له (من الشياطين) والجِنة(3) ( (من يغوصون له) في أعماق البحار ليخرجوا الدّر واللؤلؤ والمرجان وسائر الأحجار الكريمة الموجودة في أعماق البحار.
والشيطان والجنّ هنا بمعنى واحد: فإنه جسمٌ لطيف لا تراه العين المجرّدة، يسمّى شيطاناً لشيطنته وسرعة تقلّبه في الأمور، كما يسمّى (جنّاً) لستره عن الأبصار(4) (
(ويعملون عملاً دون ذلك) أي اسهل من الغوص في أعماق البحار البعيدة (وكنّا لهم) أي للشياطين (حافظين) لئلا يهربوا من سليمان أو يفسدوا عليه.. (و) قد كانوا يعملون له ما يشاء من (محاريب) للعبادة (وتماثيل) أي بمثال الأشجار وما أشبه (وجفان) جمع جفنة، وهي الآنية الكبيرة (كالجواب) أي كانت كل جفنة كالحوض الكبير، فإن (جواب) جمع جابية، وهي الحوض الكبير (وقدور راسيات) ثابتات في الأرض، القدور لأجل طبخ الطعام للجيش والناس، والجفان لأجل الإطعام (وأسلنا له عين القطر) أي أذبنا لسليمان عين النحاس، فكان كالماء المذاب، يصنعون به ما يشاءون.
وربما كان الجن يهربون من سليمان أو يريدون الإفساد، فـ(من يزغ) وينحرف (منهم) أي من أولئك الجن المسخرين لسليمان (عليه السلام) (عن أمرنا) فقد كان سبحانه أمر الجن بإطاعة سليمان (نذقه من عذاب السعير) فقد ورد أن الله سبحانه وكّل بالجن العاملين لسليمان، ملكاً بيده سوطٌ من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان، ضربه ضربةٌ تحرقه.
وبعد ما أنعم الله تعالى، لسليمان بهذه النعم العظيمة، وكذلك أنعم على أقربائــه، بنعمة سليمان، ونعمة داود، قال لهم: (اعملوا آل داود شكراً).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كانوا ثمانين رجلاً، وسبعين امرأة، ما اغب المحراب رجلٌ واحدٌ منهم يصلّي فيه)(5) ( فلم يكونوا يتركون المحراب والصلاة فيه، بل كانوا دائمي العبادة والطاعة.
وعمل الشكر؛ أعمّ من الشكر باللّسان، وإظهار الطاعة بالجوارح، والعقيدة الراسخة في القلب، بالنسبة إلى الله تعالى ولطفه، جميل صنعه.
* * *
قد عرفت في هذه القصّة الشيّقة كيف كان سليمان (عليه السلام) نبيّا عظيماً، وملكاً، وزاهداً.
ولعل من أسرار جمع الله لسليمان بين النبوة والملك، تعليم الملوك، وهداية المهتدين: أن لا منافاة بين الدنيا والدين، فرجل الدين يتمكّن أن يدير البلاد، ورجل الملك يتمكن أن يرشد الناس.
وقد كان يوسف الصديق (عليه السلام)، أيضاً نبّياً وملكاً، وكان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً ويدير أمن البلاد ويصلح شأن الدنيا.
أمّا معجزات سليمان، وما أوتي من القوة والقدرة، وتسخير الجن وما أشبه ذلك.. فكلّها هيّنة بالنسبة إلى قدرة الله تعالى، إنه سبحانه الخالق القادر الذي بيده كل مفتاح، وهو على كل شيء قدير، وقد شاءت حكمته أن يجعل مقاليد بعض أجزاء الكون في يد نبيه سليمان (عليه السلام) ليكون آية لنبوّته، كما كانت ناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ونار إبراهيم عليهم السلام، آيات دالّة على صدق نبوة هؤلاء الأنبياء.