موقف الإمام الصدر من الحرب الداخلية
فور انطلاق الشرارة الأولى لهذه الحرب (13-4-1975 م) بادر الإمام الى بذل المساعي الحميدة والجهود لدى مختلف الفرقاء لخنق الفتنة وتهدئة الوضع، ووجّه نداءً عاماً نُشر في 15-4-1975م حذّر فيه من مؤامرات العدو ومخاطر الفتنة، ودعا اللبنانيين لحفظ وطنهم وفي قلبه مكان للثورة الفلسطينية، وناشد الثوّار الفلسطينيين لحفظ قضيتهم التي جعلت من قلب لبنان عرشاً لها.
أ. "لجنة التهدئة الوطنية"
بادر الإمام الى دعوة عدد كبير من نخبة المفكّرين وممثلي الفعاليات اللبنانية اجتمع منهم سبع وسبعون شخصية في مركز المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 18-4-1975 م وشكّلوا من بينهم لجنة دعيت "لجنة التهدئة الوطنية"، وقد اجتمعت هذه اللجنة فوراً بممثل الثورة الفلسطينية وباشرت مهمتها لتهدئة الأوضاع وتحديد أسباب الفتنة ووضع الحلول الآنية والبعيدة المدى مسترشدةً بتوجيهات الإمام الصدر القاضية بوجوب المحافظة على تعايش الطوائف اللبنانية واعتماد الحوار والوسائل الديمقراطية سبيلاً لتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية ورفض القهر الطائفي ووجوب المحافظة على التعايش اللبناني الفلسطيني وصيانة الثورة الفلسطينية.
ب. اعتصام "العاملية"
لما استمر القتال واستقالت الحكومة في 26-5-1975 م، ظهرت بعد ذلك صعوبات في وجه قيام حكومة جديدة، مما هدد بخطر انقسام الوطن، فاعتصم الإمام الصدر في 27-6-1975 م في مسجد الصفا ببيروت متعبّداً وصائماً، وأعلن: "نعتصم لنفرض على المواطنين الاعتصام عن السلاح الذي يُستعمل ضد اللبنانيين والإخوان.. إننا نريد أن نخنق صفحة العنف بصفحة العبادة والاعتصام والصيام، فالسلاح لا يحل الأزمة بل يزيد في تمزيق الوطن"..
وطالب الإمام بالإسراع في تشكيل حكومة وطنية تعيد السلام وتقيم المصالحة الوطنية على أسس واضحة يعاد بناء الوطن عليها وتلبّي مطالب المحرومين.
وقد لقيت خطوة الإمام هذه تأييداً شاملاً في الأوساط الدينية لدى مختلف الطوائف والأوساط الشعبية والسياسية، وتألفت حكومة جديدة في 1-7-1975 م، فأنهى سماحته اعتصامه بعد أن تلقّى وعداً بتبنّي المطالب المطروحة والعمل على تنفيذها، لكنه سرعان ما توجّه الى بعلبك-الهرمل ليعمل على فك الحصار عن قرية القاع المسيحية وتهدئة الأوضاع في المنطقة.
عبّر الإمام الصدر عن نظرته للحرب اللبنانية بقوله: "إنّ انفجار الوضع اليوم يؤدي الى سقوط لبنان وتحجيم المقاومة وإلحاق الضرر الكبير بسوريا والقضية العربية، وهذا لمصلحة العدو".. لذا أكّد من البداية على المصالحة الوطنية في إطار أسس جديدة للوطن تحقّق العدالة الاجتماعية وتعالج الحرمان وتصون الجنوب.
ج. الوثيقة الدستورية
شارك الإمام الصدر في اجتماعات القمّة الإسلامية في "عرمون" (تكوّنت القمّة من رؤساء الطوائف الإسلامية وبعض كبار الشخصيات الإسلامية السياسية)، حيث رفضت الحكومة العسكرية ورحّبت بالمبادرة السورية التي أدّت الى الوثيقة الدستورية المعلنة من رئيس الجمهورية بتاريخ 14-2-1976م.
واعتبر الإمام الصدر الوثيقة الدستورية مدخلاً للسلم النهائي في لبنان وأرضية للوفاق الوطني، ورأى أنّ أي تعديل لهذه الوثيقة يجب أن يمر عبر الطرق الديمقراطية والحوار الهادئ بالمستقبل، وعلى هذا الأساس استمر سماحته بتأييد الوساطة السورية (الرامية الى إنهاء الحرب وإجراء مصالحة وطنية) شاجباً بشدّة استئناف القتال وتوسيع رقعته في حرب الجبل.
د. الاعتراض على الإدارة المحلية
عارض الإمام الصدر بشدّة أعمال الجبهتين المتحاربتين في لبنان في إنشائهما إدارات محلية تابعة لهما بديلة عن الإدارات الرسمية، واعتبر سماحته أنّ ذلك يؤدي الى تقسيم الوطن.
هـ. السعي لتحقيق تضامن عربي حول لبنان
أدرك الإمام الصدر أنّ إنهاء الحرب في لبنان يتطلب قراراً عربياً مشتركاً يسبقه وفاق عربي، فانتقل سماحته الى دمشق بتاريخ 23-8-1976، ومنها الى القاهرة في 2-9-1976 محاولاً تنقية الأجواء بين البلدين وتوحيد مواقفهما من الحرب الداخلية من اجل إنهائها، وقد استمرت مساعيه لغاية 13-10-1976 تنقل خلالها بين البلدين، وبين السعودية والكويت، واتصل برئيس الجمهورية والمقاومة الفلسطينية ساعياً مع الملوك والرؤساء والمسؤولين العرب لتحقيق تضامن عربي، وقد أثمرت هذه المساعي مع مساعي بعض المسؤولين العرب وانتهت بانعقاد مؤتمر قمة الرياض في 16-10-1976 وبعده مؤتمر القاهرة في 25-120-1976، حيث تقرّر فيهما إنهاء الحرب اللبنانية، وفُرض ذلك بدخول قوات الردع العربية.
و. السعي لإنقاذ الجنوب
لم تدخل قوات الردع الى الجنوب، ولم تتمكن السلطة اللبنانية من فرض سلطتها هناك، فانتقل إليها صراع الفئات والقوى التي كانت تتصارع على الأراضي اللبنانية، واشتدت محنة الجنوب، فبات مسرحاً لأحداث خطيرة تهدّد مصيره، وكان الإمام يتابع مساعيه مع المسؤولين والقيادات في لبنان ورؤساء بعض الدول العربية ويرفع صوته في الخطابات والمقابلات الصحفية (ابتداءً من أواخر سنة 1976 وصولاً الى مطلع العام 1978) محذّراً من كارثة على جنوب لبنان ومن خطر تعريضه للاحتلال الإسرائيلي ومؤامرة التوطين. وبعد الاجتياح الإسرائيلي في 14-3-1978 واستقرار الاحتلال في الشريط الحدودي من الجنوب، قام الإمام بجولة جديدة على الدول العربية ليعرض خلالها على الملوك والرؤساء العرب واقع الأوضاع في منطقة الجنوب مطالباً بعدم جعلها ساحة للخلافات العربية، وبعقد قمة عربية محدودة تعالج قضية الجنوب وتعمل على إنقاذه. وبعد أن زار لهذه الغاية سوريا والأردن والسعودية والجزائر، إنتقل الى ليبيا في 25-8-1978 م.