تكبر الأشياء عندما نفقدها.. ومنها الإنسان، ويصبح كبيرا جدا عندما يستشهد.. فيملأ النفس.. ويزداد فيها عظمة وسموا، وهذه الرفعة التي يستشعرها الحيّ في الميّت ناتجة عن استيقاظ النفس على حقيقة الفقيد ونظرها إليه نظرة خالية من المحاسد والمطامع.. فتكون ثاقبة صافية تحيط به وتستوعبه، وهذه الرفعة ناتجة – أيضا – من الفراغ الذي يتركه الفقيد بعد ذهابه ومفارقته لموقعه..فيظهر لأنصاف عارفيه ما كان خافيا عليهم ممن أحببوا، وهي ناتجة – أيضا- من سيل الذكريات الجميلة الرائعة التي يستثيرها الفراق.. فيبدو منها ما كان مختزنا في باطن الذهن ينتظر المحرِّض ليظهر ويبدو،.. وترى الشهيد ساميا عندما يكون موته تاجا قوي الوهج.. باهر السطوع.. يشير إلى ما يشبه الأوحدية والتفرد في صفات وسجايا.. أرادها الله مثلا وقدوة.. فاختارها وتوّجها، فيصبح الإستشهاد سببا للبحث عن هذه السجايا لنسجلها.. لنعاينها.. بعد غياب الكثير منها في أجواء رفع الكلفة.. وعبث الحياة.. وربما التنافس.. الذي قد يحبّه الله تعالى.
ولقد عايشناك ردحا" من الزمن سائرا" نائما" ، خطيبا" متحدثا"، مسرورا مهموما"، جادا" عابثا".. ولأن أفعالك ومواقفك كانت مدوّية فما نظن أحدا يجهلك.. وما نظنه يتردد في نعتك بالتميز في العديد من الأمور، ولكن ما أكثر من لا يعرفك كلك.. وما أكثر من لا يعرف ما خفي من صفاتك.. وما أكثر من لا يزال ينظر إليك.. كما كان ينظر إليك في حياتك.. متأثرا بواحدة من موانع النظرة السامية التي سبق ذكرها.. فكان الحديث عنك واجبا لأنه بعض حقّك علينا.. وليس الفرض أن تصبح أكبر مما أنت عليه، بل أن نصبح نحن أكثر كمالا في نظرتنا إليك.. ولتصبح أكثر استفادة من سيرتك.. فننسجم مع الغاية التي أرادها الله تعالى من استشهادك.
ونحن يا سيدي رأيناك شامخا" في العديد من المواقف. فاستفدنا منك. ورآك آخرون كذلك فذهبنا إليهم وحاورناهم عنك.. فكانت معرفتنا بك ومحاورتنا لمن يعرفك لوحة لك رسمناها في هذه الصفحات علّنا نؤدي بعض حقك علينا.
الشهيد راغب حرب
بدايات عمل الشهيد في جبل عامل
أول همّ يواجه الداعية إلى الله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. على مستوى إخوانه وأهل بلده، فلا بد أن يتوجه إلى إصلاحهم وتربيتهم من خلال السهرات والدروس والمواعظ والمواظبة على صلاة الجماعة، وهذا هو الأمر الطبيعي الذي بدأه الشهيد في بلدته جبشيت.
ولقد سكن في بيت أهله.. على ضيقه.. فترة من الزمن، ثم سكن في بيت جدته.. وبعدها في الشرقية في منزل موقوف لسكن العالم الديني ثم بعدها في بيت عمته.. ثن استأجر بيتا أخلاه سريعا لإنشاء مستوصف فيه.. ولم يستقر في منزل يملكه إلا في أواخر حياته وبعد معاناة طويلة..
ولقد كان المسجد حبيبا إلى نفسه.. يصرّ على الصلاة فيه.. ويتفقد احتياجاته وبالأخص المصاحف القديمة التي تناثرت أوراقها، فيجمع هذه المصاحف ويأخذها إلى من يجلدها، ويولي عناية خاصة بمكتبة المسجد.. يضيف عليها – إن وجدت – ويحسنّها، أو ينشئ مكتبة جديدة في حال عدم وجودها، فضلا عن عنايته بعمارتها وتوسيعها.
بداية خطبه ودروسه.. كانت بداية بسيطة وصعبة، فكان يحير في تهيئة الخطب والدروس.. حتى أنه في خطب الجمعة كان يلقيها عن الورق، وهكذا حتى استقامت له الأمور وأصبح من الخطباء المفوهين والمتمرسين.. وواحدا من قلة المعممين الذين كانوا يأسرون الجمهور بكلامهم.
أنشأ ما اشتهر (بسهرة الشاي) التي كانت تقام كل ليلة جمعة ويدفع كل واحد من الحاضرين ليرة مقابل كأس الشاي الذي يشربه مساهمة في بناء مسجد (شيت)، وكانت تعمر هذه السهرات بألوان الأحاديث البسيطة حتى أثمرت واحدا من أضخم المساجد في لبنان.. والفريد من نوعه في كل الجنوب.
ركز عنايته على المكتبة العامة التي كان قد شارك في تأسيسها وجمع لها الكتب، فوضعت في مكان واسع ومناسب واستجلب لها مزيدا من الكتب، حتى أني أذكر أن أول شيء يطلبه حين دخوله إلى بيتك هو التبرع ببعض الكتب للمكتبة، والهدف الأساس منها هو جمع الشباب فيها على العلم والمعرفة والرياضة، وتحويلها إلى مركز ثقافي يستعمل أساليب جديدة لخدمة العمل الإسلامي.. مثل أشرطة التسجيل والوسائل البصرية مثل (السلايد) التي كانت معروفة في ذلك الوقت، مضافا إلى بعض وسائل التسلية والرياضة التي يحبها الشباب ، وكونها قاعة لإعطاء الدروس والمحاضرات.
استشهاده فجّر ثورة الغضب في وجه العدو المحتل
وباستشهاده رضوان الله عليه بدأت مرحلة جديدة من مراحل المواجهة مع العدو. لقد سقط من كنا نحرص على سلامته، لقد سقط قائد الإنتفاضة وبسقوطه انفجر بركان الغضب والثورة وخرج الآلاف من أبناء هذا الشعب لوداعه ولإعلان إستمرار المسيرة حتى النصر.
وكما أشعل إعتقاله قلوب أبناء الأمة ثورة وغضبا ضد العدو فقد فجّر استشهاده هذه الثورة وهذا الغضب. فاشتعل الجنوب بأسره حمما تتساقط على العدو ويفقد العدو صوابه ويقرر الرد بإعلان القبضة الحديدية وتتحول المعركة مع العدو إلى معركة حياة أو موت لا مجال فيها للتراجع أبدا.
ويقرر العدو اقتحام قلعة الشيخ بعد استشهاده وهكذا كان، فبعد أربعين الشيخ بثلاثة أيام كانت جبشيت على موعد بإجتياح جديد حشدت له إسرائيل آلاف الجنود ومئات المدرعات وتحولت ساحات البلدة إلى أماكن للمواجهة الدامية .
ويسقط ثلاثة شهداء وعدد من الجرحى ويعتقل المئات من أبناء هذه القرية الصابرة التي أعطت المثل في الصمود مثلها مثل العديد من قرى الجبل الأشم.
وتستمر المسيرة التي روتها دماء شيخ الشهداء وتحبس الدموع وتتحول غضبا وحمما ويأتي اليوم الذي كان يحلم به الشيخ، ويأخذ العدو بالتراجع، والهزيمة بادية على وجهه وتتحرر معظم قرى هذا الجبل وتبقى قرى أخرى بانتظار موعد جديد مع الثورة ، التي ما زالت تسطر أروع ملاحم البطولة والفداء.
وقد أحدثت، وبشكل واضح جريمة الإغتيال هذه، هزّة عنيفة، وزلزالا قويا أصاب مشاعر كل المجاهدين، وسائر المؤمنين من أبناء شعبنا الصامد، خاصة وأن الشيخ الشهيد، كان يحيا في وجدان الأمة وضميرها، يعيش آلام وآمال هذا الشعب ، يرعى شؤونه ويعالج همومه، ويتقاسم معه حلو الحياة ومرّها، فيحزن لحزنه ويفرح لفرحه مما جعله قائدا شعبيا محبوبا وملهما.
لقد كان الشيخ الشهيد، مبعث أنسٍ، وآية محبة وموضع إجلال عند كافة أهلنا في جبل عامل وغيره.
وآية المحبة التي يكنّها الشعب لشهيدنا الكبير، تتجلى بوضوح، في الأمواج البشريّة الزاحفة التي جاءت محتشدة في يوم إستشهاده، والتي فاق عددها عشرات الألوف.
هكذا علمتنا، ولهذا دعوتنا، وإنّا لدعوتك مسارعون ولتعاليمك مستجيبون.
فسلام عليك يوم ولدت ويم استشهدت ويوم تبعث حي".
والحمد لله رب العالمين