تكوّن التربة
تكوّن التربة Soil Genesis، هو أحد فروع علم البيدلوجي Pedology؛ ويتناول دراسة عوامل وعمليات تكون التربة، لذلك، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعديد من العلوم، مثل: كيمياء التربة وفيزيائها، والجيولوجيا، والجيومورفولوجيا، والمناخ والبيولوجيا، والزراعة.
عمليات تكوّن التربة Soil Forming Processes
عمليات تكوّن التربة، هي العمليات الكيماوية والفيزيائية والحيوية، التي تحدث في نظام التربة، تسفر عن تحويل المادة الأصلية، سواء كانت صخوراً أصلية أو رواسب، إلى تربة متطورة، ذات آفاق مميزة؛ وتضمحل فيها الصفات الموروثة من المادة الأصلية، التي تشكلت منها التربة. وتشمل عمليات تكوّنها: عمليات إضافة المادة إلى نظام التربة Addition، وفقدانه إياها من ذلك النظام Losses؛ وعمليات نقل Transfer؛ وعمليات إزالة Removel، أفقية ورأسية، داخل ذلك النظام، وتحوُّل Transformation المواد العضوية والمعادن فيه (الشكل الرقم 137). وهذه العمليات لا تعمل منفردة بعضها عن بعض، بل تحدث في نظام التربة، في آن واحد؛ وتؤثر كل واحدة منها في العمليات الأخرى، سلباً أو إيجاباً، في ما يعرف باسم التغذية المرتجعة Feedback .
الغسل Leaching
تعد عملية الغسل من العمليات المهمة في تكوّن التربة، وخاصة فيما يتعلق بتمايز الآفاق وتباينها. وهي أساس لعمليات أخرى، مثل: التكلس والبدزلة واللترتة. وما عملية الغسل إلا إذابة لمكونات التربة الصلبة في المحلول المائي، ونقلها من نظام التربة إلى المياه الجوفية؛ ولذلك، فهي تكون أكثر نشاطاً في المناطق، التي تتلقى كمية كبيرة من الأمطار، سنوياً، منها في المناطق الجافة. والمواد المزالة من نظام التربة، بوساطة عملية الغسل، تكون على شكل أيونات مذابة في المحلول المائي، من الأملاح والكربونات والسليكات والمعادن الأخرى. إلا أن تأثرها بتلك العملية، ليس واحداً؛ بل يكون متفاوتاً بتفاوت قابلية كلٍّ منها للحركة mobility، في المحلول المائي. ولحسن الحظ، فإن أغلب العناصر الضارة بالنبات، مثل أيون الصوديوم Na+، والكلور Cl-، تكون قابليتها للحركة أكبر، فيسهل غسلها. ويمكن ترتيب قابلية العناصر الكيماوية الرئيسية، في التربة، للحركة في المحلول المائي، من الأعلى قابلية إلى الأقل قابلية، كما يلي:
الصوديوم > الكالسيوم > الماغنسيوم > البوتاسيوم > الحديدوز > السليكا > التايتنيوم > الحديديك > الألمنيوم
Na+ > Ca2+ > Mg2+ > K+ > Fe+2 > Si+4 >Ti+4 > Fe+3 > Al+3
لذلك، فإن النشاط الكبير لعملية الغسل، يزيل من التربة العناصر الغذائية الأساسية لنمو النبات، مثل: البوتاسيوم K والكالسيوم Ca. وينجم عن التتابع في قابلية الحركة للعناصر الكيماوية، في المحلول المائي، إزالة العناصر الأكثر قابلية للحركة، من قطاع التربة، أولاً، في مراحل تكون طبقتها الأولى؛ وبقاء أكاسيد الألمنيوم والحديديك في الترب، التي تعرضت لعمليات غسل كبيرة، ولمدد طويلة، كما هو الحال في المناطق الاستوائية. أما في المناطق الصحراوية، حيث تكون عملية الغسل غير ناشطة نظراً إلى ضآلة الأمطار السنوية، وارتفاع معدلات التبخر والنتح ـ فإن العناصر عالية القابلية للحركة، مثل: الصوديوم Na والكالسيوم Ca، تترسب على شكل أملاح، مثل ملح الطعام (الهاليت NaCl)، وكربونات الكالسيوم (كالسايت) CaCO3، في قطاع التربة، خاصة فيما يعرف بالأفق الصودي والأفق الكلسي.
وترتبط قابلية الأيونات للحركة بما يعرف بالجهد الأيوني Ionic Potential، والذي يعبر عنه بنسبة شحنة الأيون (Z) Valence إلى(r):
الجهد الأيوني =
Z
r
Z = شحنة الأيون Valence.
r = نصف قطر الأيون.
إن الأيونات، التي قابليتها للحركة كبيرة جداً، يكون جهدها الأيوني أقلّ من 3. بينما تلك التي يراوح جهدها الأيوني بين 3 و9.5، تكون قابليتها للحركة منخفضة؛ وتُكوّن، عادة، رواسب غير متحركة. أما الأيونات، التي يزيد جهدها الأيوني على 9.5، فتُكون معقدات أيونات ذائبة .
الإزاحة Elevation
وهي حركة مواد التربة، على شكل معلقات، من الآفاق السطحية إلى الآفاق تحت السطحية. وتنشط عملية الإزاحة في المناطق الرطبة، التي يزيد فيها معدل المطر على معدل البخرنتح السنوي. هي لا تزيل المواد من قطاع التربة، بل تنقلها إلى داخله. ومن أهم الظواهر الناتجة منن عملية الإزاحة، تكوّن الأفق E، المزال منه العديد من المواد، وخاصة معادن الطين.
التراكم Illuviation
وهي عملية رسوب المواد، التي نقلت من الآفاق العلوية، لا سيما الأفقَينA وE، بوساطة الإزاحة، في الآفاق تحت السطحية، وخاصة الأفق B. وأهم المواد، التي تتراكم في الأفقَين B وC، هي معادن الطين، التي تكوّن ما يعرف بالأفق الطيني.
التكلس Calcification
تُعد عملية التكلس من أهم عمليات تكوّن التربة، في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، حيث يفوق معدل البخرنتح الإمكاني معدل التساقط السنوي؛ ما يحول دون غسل الأملاح الذائبة في محلول ، بل يساعد على ترسبها في الأفقَين B وC، من في الآفاق تحت السطحية، على شكل كربونات الكالسيوم. وإذا استمرت هذه العملية لمدة طويلة أدت تلاحم الأفق، الذي يحدث فيه تراكم كربونات الكالسيوم، على شكل معدن الكالسايت CaCO3؛ ما يجعله طبقة، لا تنفُذ منها المياه.
ويتحكم في عملية التكلس عدة عوامل، من أهمها: معدل رشح التربة، وقرب المياه الجوفية من السطح، وضغط غاز ثاني أكسيد الكربون في هواء التربة، وتوافر الكالسيوم، وقوام التربة، ومعدل البخرنتح الإمكاني.
أ-
معدل الرشح خلال التربة
كلما ازداد معدل رشح التربة ازداد غسل الأيونات مع محلول التربة، من قطاع التربة إلى المياه الجوفية؛ فيكون تركيز الأيونات في المحلول المائي في التربة، أقلّ من مستوى التشبع بمعدن الكالسايت CaCO3؛ ما يحول دون ترسب هذا المعدن، بل يؤدي ذوبانه في المحلول المائي، إذا كان موجوداً في التربة أصلاً. لذلك، فإن الآفاق الكلسية غير موجودة في أراضي المناطق الرطبة، بينما تنتشر في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية. كما أن التفاوت النسبي في معدل الرشح، في المناطق الآنفة، يؤدي تفاوت العمق، الذي يترسب فيه الكلس. ففي المناطق شبه الصحراوية، التي يكون معدل الرشح فيها مرتفعاً نسبياً يرسب الكلس في الأفق C؛ بينما في المناطق الصحراوية، يكون رسوبه في الأفق B، وأحياناً، في الأفق A.
ب-
قرب المياه الجوفية من السطح
في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، قد تقترب المياه الجوفية من السطح؛ أو تكون على السطح، في المناطق المنخفضة طبوغرافياً، أو قليلة التصريف؛ مما يجعل المياه متوافرة طوال العام، في نطاق التبخر والنتح في التربة. ولأن معدلات هذَين الأخيرَين عالية، في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، فإن قرب الماء الجوفي من سطح التربة يؤدي إلى تركيز الأيونات في المحلول المائي، فوق حدّ التشبع بمعدن الكالسايت، ورسوبه في التربة، طوال العام؛ ما يساعد على تكوّن الأفق الكلسي بسرعة.
ج-
ضغط غاز ثاني أكسيد الكربون الجزئي في هواء التربة
نتيجة للنشاط البيولوجي في التربة، يكون الضغط الجزئي لغاز ثاني أكسيد الكربون في هوائها، أكبر منه في الهواء الحر. وهو يلائم المواد العضوية المتوافرة في التربة. وكلما ازداد ذلك الضغط، ازدادت كمية ثاني أكسيد الكربون، الذائبة في المحلول المائي:
ما يجعل ثاني أكسيد الكربون الذائب، يتحد مع الماء، مكوناً حمض الكربونيك:
وحمض الكربونيك، بدوره، يتحلل إلى أيون الهيدروجين +H والبيكربونات HCO-3:
والتركيز العالي لأيون الهيدروجين في المحلول المائي، يقلل من درجة تشبع المحلول المائي، بالنسبة إلى معدن الكالسايت:
ولا يرسب معدن الكالسايت من المحلول المائي، في الجزء العلوي من قطاع التربة، الذي يزداد فيه الضغط الجزئي لغاز ثاني أكسيد الكربون؛ نظراً إلى توافر المادة العضوية، بل يذوب الكالسايت في المحلول المائي، إذا كان موجوداً في المادة الأصل. ولأن المادة العضوية قليلة، في الترب الصحراوية وشبه الصحراوية، فإن ضغط غاز ثاني أكسيد الكربون في هوائها، داخل المسام، يكون منخفضاً؛ ما يجعل محلول التربة متشبعاً، بالنسبة إلى معدن الكالسايت، عند قيم أقلّ لتركيز الأيونات المكونة له فيه.
د-
قوام التربة
يؤثر قوام التربة في معدل التوصيل الهيدروليكي Hydraulic Conductivity للتربة، استطراداً، في مقدار الغسل وكمية التبخر لمحلول التربة، على سطحها أو قربه، ففي سرعة التكلس وعمق الأفق الكلسي. إذ في الترب ذات القوام الخشن، يكون معدل الرشح عالياً، وكذلك معدل الغسل؛ بينما يكون فقدان الماء، بوساطة التبخر، على سطح التربة أو قربه، قليلاً، نظراً إلى انخفاض الخاصية الشعرية، التي ترفع المحلول المائي نحو السطح، حيث التبخر. وفي هذا النوع من الترب، يكون رسوب الكلس في أسفل قطاع التربة، وربما لا يتكون الأفق الكلسي، إذا كانت كمية الأمطار السنوية مرتفعة، نسبياً، في المناطق شبه الصحراوية. في المقابل، تكون الترب ناعمة القوام، مثل الترب الطينية، منخفضة التوصيل الهيدروليكي؛ ما يحدّ من كمية الغسل، ويزيد من كمية التبخر لمحلول التربة، على سطحها أو قربه، ولا سيما أن الخاصية الشعرية، تكون في هذا النوع من الترب عالية؛ ما يجعل الماء يصعد من داخل التربة إلى السطح، لكي تستمر عملية التبخر. ولذا، يتكون الأفق الكلسي قريباً من السطح، في مثل هذه الترب الناعمة القوام.
هـ-
معدل البخرنتح الإمكاني
كلما ازداد معدل البخرنتح الإمكاني، ازداد تركيز الأيونات في المحلول المائي في التربة، ليصل إلى مستوى تشبعه بمعدن الكالسايت. ولذلك تسود الآفاق الكلسية في المناطق شبه الصحراوية والصحراوية في المناطق الحارة؛ بينما قد تكون محدودة، في المناطق المساوية لها في كمية الأمطار السنوية، في المناطق الباردة. ويزداد معدل البخرنتح الإمكاني، كلما ازداد الإشعاع الشمسي، ودرجة الحرارة، وسرعة الرياح، وقلت الرطوبة النسبية في الهواء. وجميع هذه العناصر متوافرة في المناطق الصحراوية المدارية أكثر منها في أي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية.
التملح Salinization
وهي عملية رسوب الأملاح، الأكثر ذوباناً، في المحلول المائي، مثل: كبريتات الكالسيوم (الجبس) CaSO4 . 2H2O، وكلوريد الصوديوم (الهاليت أو ملح الطعام) NaCl، من محلول التربة، سواء على سطحها، أو في آفاق ملحية، داخل قطاع التربة. ولكي ترسب هذه الأملاح من محلول التربة، فلا بدّ من تركيز للأيونات المكونة لها في المحلول بوساطة، التبخر، أكثر مما كان مطلوباً في عملية التكلس؛ لأن معدنَي الجبس والهاليت أكثر قابلية للذوبان في المحلول المائي، من معدن الكالسايت CaCO3. وتنشط عملية التملح في الأقاليم الصحراوية وشبه الصحراوية، حيث يفوق معدل البخرنتح الإمكاني معدل التساقط السنوي؛ وفي المناطق المنخفضة، ذات التصريف الداخلي، والتي يكون مستوى الماء الجوفي فيها قريباً من السطح؛ وفي المناطق الساحلية، حيث تنتشر السبخات. ويتحكم في سرعة تملح التربة وشدته عوامل عدة، مشابهة لتلك التي تتحكم في عملية التكلس.
اللترتة Laterization
وهي عملية الإذابة الكيماوية للسليكا Si من المعادن، في أفق الاستزراع؛ ونقلها في المحلول المائي إلى الآفاق التحتية، في قطاع التربة؛ وذلك تحت درجة حرارة مرتفعة ومعدل غسل عالٍ، كما هو الحال في ترب الأقاليم الرطبة الدافئة، في المناطق الاستوائية. وينتج من اللترتة تغير كبير للمـادة الأصل، حتى إنه لا يمكن تمييزها، إذ لا يتبقى في أفق الاستزراع، من السليكا، إلا القليل، في بعض بلورات المرو (الكوارتز) الأولية، أو مرتبطة بمعادن الطين الثانوية، وخـاصة معدن الكالينيت Al4Si4O10 (OH)8 Kaolinite. أما الجزء الأكبر من المعادن، في هذا الأفق، فتكون على شكل أكاسيد وهيدروكسيدات الحديد والألمنيوم، الخالية من السليكا، مثل: الهمياتايت Fe2O3، والجيوثايت FeO-OH، والبوكسيت Al(OH)3.
البدزلة Podzolization
البدزلة هي انتقال الأكاسيد السداسية، والمادة العضوية، من الآفاق السطحية إلى الآفاق تحت السطحية للتربة؛ نتيجة كثرة الأمطار، وارتفاع مستوى الماء الجوفي وتذبذبه، في قطاع التربة. وتحدث عملية البدزلة في مدى واسع من درجات الحرارة؛ إذ تحدث في المناطق الباردة والمعتدلة والحارة. إلا أنها لا تحدث في المناطق الحارة، إلا إذا كانت المادة الأصل غنية جداً بعنصر السليكا. ففي الأراضي ذات الغطاء النباتي الكثيف، يكون سطح التربة مغطى بطبقة من المواد العضوية، التي تتحلل، منتجة العديد من الأحماض العضوية، التي تزيد قدرة المحلول المائي للتربة على الإذابة؛ فتنغسل الكاتيونات من الآفاق السطحية، ويسود كاتيون الهيدروجين +H في معقد التبادل، فتصبح التربة أكثر حموضة. وهذا الوسط الحمضي يسرع من تحلل معادن الطين، وانفراد السليكا والألمنيوم والحديد وانتقالها، مع المحلول المائي، إلى أسفل. إلا أن حركة الألومنيوم والحديد تكون أسرع كثيراً من حركة السليكا، في الوسط الحمضي؛ ما يجعل الأخيرة تتركز في الآفاق السطحية؛ بينما ينتقل الحديد والألمنيوم إلى الآفاق السفلية، حيث تتغير الظروف وتقل حموضة المحلول المائي، فيرسبا على شكل أكاسيد.
تكوّن التربة Soil Genesis، هو أحد فروع علم البيدلوجي Pedology؛ ويتناول دراسة عوامل وعمليات تكون التربة، لذلك، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعديد من العلوم، مثل: كيمياء التربة وفيزيائها، والجيولوجيا، والجيومورفولوجيا، والمناخ والبيولوجيا، والزراعة.
عمليات تكوّن التربة Soil Forming Processes
عمليات تكوّن التربة، هي العمليات الكيماوية والفيزيائية والحيوية، التي تحدث في نظام التربة، تسفر عن تحويل المادة الأصلية، سواء كانت صخوراً أصلية أو رواسب، إلى تربة متطورة، ذات آفاق مميزة؛ وتضمحل فيها الصفات الموروثة من المادة الأصلية، التي تشكلت منها التربة. وتشمل عمليات تكوّنها: عمليات إضافة المادة إلى نظام التربة Addition، وفقدانه إياها من ذلك النظام Losses؛ وعمليات نقل Transfer؛ وعمليات إزالة Removel، أفقية ورأسية، داخل ذلك النظام، وتحوُّل Transformation المواد العضوية والمعادن فيه (الشكل الرقم 137). وهذه العمليات لا تعمل منفردة بعضها عن بعض، بل تحدث في نظام التربة، في آن واحد؛ وتؤثر كل واحدة منها في العمليات الأخرى، سلباً أو إيجاباً، في ما يعرف باسم التغذية المرتجعة Feedback .
الغسل Leaching
تعد عملية الغسل من العمليات المهمة في تكوّن التربة، وخاصة فيما يتعلق بتمايز الآفاق وتباينها. وهي أساس لعمليات أخرى، مثل: التكلس والبدزلة واللترتة. وما عملية الغسل إلا إذابة لمكونات التربة الصلبة في المحلول المائي، ونقلها من نظام التربة إلى المياه الجوفية؛ ولذلك، فهي تكون أكثر نشاطاً في المناطق، التي تتلقى كمية كبيرة من الأمطار، سنوياً، منها في المناطق الجافة. والمواد المزالة من نظام التربة، بوساطة عملية الغسل، تكون على شكل أيونات مذابة في المحلول المائي، من الأملاح والكربونات والسليكات والمعادن الأخرى. إلا أن تأثرها بتلك العملية، ليس واحداً؛ بل يكون متفاوتاً بتفاوت قابلية كلٍّ منها للحركة mobility، في المحلول المائي. ولحسن الحظ، فإن أغلب العناصر الضارة بالنبات، مثل أيون الصوديوم Na+، والكلور Cl-، تكون قابليتها للحركة أكبر، فيسهل غسلها. ويمكن ترتيب قابلية العناصر الكيماوية الرئيسية، في التربة، للحركة في المحلول المائي، من الأعلى قابلية إلى الأقل قابلية، كما يلي:
الصوديوم > الكالسيوم > الماغنسيوم > البوتاسيوم > الحديدوز > السليكا > التايتنيوم > الحديديك > الألمنيوم
Na+ > Ca2+ > Mg2+ > K+ > Fe+2 > Si+4 >Ti+4 > Fe+3 > Al+3
لذلك، فإن النشاط الكبير لعملية الغسل، يزيل من التربة العناصر الغذائية الأساسية لنمو النبات، مثل: البوتاسيوم K والكالسيوم Ca. وينجم عن التتابع في قابلية الحركة للعناصر الكيماوية، في المحلول المائي، إزالة العناصر الأكثر قابلية للحركة، من قطاع التربة، أولاً، في مراحل تكون طبقتها الأولى؛ وبقاء أكاسيد الألمنيوم والحديديك في الترب، التي تعرضت لعمليات غسل كبيرة، ولمدد طويلة، كما هو الحال في المناطق الاستوائية. أما في المناطق الصحراوية، حيث تكون عملية الغسل غير ناشطة نظراً إلى ضآلة الأمطار السنوية، وارتفاع معدلات التبخر والنتح ـ فإن العناصر عالية القابلية للحركة، مثل: الصوديوم Na والكالسيوم Ca، تترسب على شكل أملاح، مثل ملح الطعام (الهاليت NaCl)، وكربونات الكالسيوم (كالسايت) CaCO3، في قطاع التربة، خاصة فيما يعرف بالأفق الصودي والأفق الكلسي.
وترتبط قابلية الأيونات للحركة بما يعرف بالجهد الأيوني Ionic Potential، والذي يعبر عنه بنسبة شحنة الأيون (Z) Valence إلى(r):
الجهد الأيوني =
Z
r
Z = شحنة الأيون Valence.
r = نصف قطر الأيون.
إن الأيونات، التي قابليتها للحركة كبيرة جداً، يكون جهدها الأيوني أقلّ من 3. بينما تلك التي يراوح جهدها الأيوني بين 3 و9.5، تكون قابليتها للحركة منخفضة؛ وتُكوّن، عادة، رواسب غير متحركة. أما الأيونات، التي يزيد جهدها الأيوني على 9.5، فتُكون معقدات أيونات ذائبة .
الإزاحة Elevation
وهي حركة مواد التربة، على شكل معلقات، من الآفاق السطحية إلى الآفاق تحت السطحية. وتنشط عملية الإزاحة في المناطق الرطبة، التي يزيد فيها معدل المطر على معدل البخرنتح السنوي. هي لا تزيل المواد من قطاع التربة، بل تنقلها إلى داخله. ومن أهم الظواهر الناتجة منن عملية الإزاحة، تكوّن الأفق E، المزال منه العديد من المواد، وخاصة معادن الطين.
التراكم Illuviation
وهي عملية رسوب المواد، التي نقلت من الآفاق العلوية، لا سيما الأفقَينA وE، بوساطة الإزاحة، في الآفاق تحت السطحية، وخاصة الأفق B. وأهم المواد، التي تتراكم في الأفقَين B وC، هي معادن الطين، التي تكوّن ما يعرف بالأفق الطيني.
التكلس Calcification
تُعد عملية التكلس من أهم عمليات تكوّن التربة، في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، حيث يفوق معدل البخرنتح الإمكاني معدل التساقط السنوي؛ ما يحول دون غسل الأملاح الذائبة في محلول ، بل يساعد على ترسبها في الأفقَين B وC، من في الآفاق تحت السطحية، على شكل كربونات الكالسيوم. وإذا استمرت هذه العملية لمدة طويلة أدت تلاحم الأفق، الذي يحدث فيه تراكم كربونات الكالسيوم، على شكل معدن الكالسايت CaCO3؛ ما يجعله طبقة، لا تنفُذ منها المياه.
ويتحكم في عملية التكلس عدة عوامل، من أهمها: معدل رشح التربة، وقرب المياه الجوفية من السطح، وضغط غاز ثاني أكسيد الكربون في هواء التربة، وتوافر الكالسيوم، وقوام التربة، ومعدل البخرنتح الإمكاني.
أ-
معدل الرشح خلال التربة
كلما ازداد معدل رشح التربة ازداد غسل الأيونات مع محلول التربة، من قطاع التربة إلى المياه الجوفية؛ فيكون تركيز الأيونات في المحلول المائي في التربة، أقلّ من مستوى التشبع بمعدن الكالسايت CaCO3؛ ما يحول دون ترسب هذا المعدن، بل يؤدي ذوبانه في المحلول المائي، إذا كان موجوداً في التربة أصلاً. لذلك، فإن الآفاق الكلسية غير موجودة في أراضي المناطق الرطبة، بينما تنتشر في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية. كما أن التفاوت النسبي في معدل الرشح، في المناطق الآنفة، يؤدي تفاوت العمق، الذي يترسب فيه الكلس. ففي المناطق شبه الصحراوية، التي يكون معدل الرشح فيها مرتفعاً نسبياً يرسب الكلس في الأفق C؛ بينما في المناطق الصحراوية، يكون رسوبه في الأفق B، وأحياناً، في الأفق A.
ب-
قرب المياه الجوفية من السطح
في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، قد تقترب المياه الجوفية من السطح؛ أو تكون على السطح، في المناطق المنخفضة طبوغرافياً، أو قليلة التصريف؛ مما يجعل المياه متوافرة طوال العام، في نطاق التبخر والنتح في التربة. ولأن معدلات هذَين الأخيرَين عالية، في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، فإن قرب الماء الجوفي من سطح التربة يؤدي إلى تركيز الأيونات في المحلول المائي، فوق حدّ التشبع بمعدن الكالسايت، ورسوبه في التربة، طوال العام؛ ما يساعد على تكوّن الأفق الكلسي بسرعة.
ج-
ضغط غاز ثاني أكسيد الكربون الجزئي في هواء التربة
نتيجة للنشاط البيولوجي في التربة، يكون الضغط الجزئي لغاز ثاني أكسيد الكربون في هوائها، أكبر منه في الهواء الحر. وهو يلائم المواد العضوية المتوافرة في التربة. وكلما ازداد ذلك الضغط، ازدادت كمية ثاني أكسيد الكربون، الذائبة في المحلول المائي:
ما يجعل ثاني أكسيد الكربون الذائب، يتحد مع الماء، مكوناً حمض الكربونيك:
وحمض الكربونيك، بدوره، يتحلل إلى أيون الهيدروجين +H والبيكربونات HCO-3:
والتركيز العالي لأيون الهيدروجين في المحلول المائي، يقلل من درجة تشبع المحلول المائي، بالنسبة إلى معدن الكالسايت:
ولا يرسب معدن الكالسايت من المحلول المائي، في الجزء العلوي من قطاع التربة، الذي يزداد فيه الضغط الجزئي لغاز ثاني أكسيد الكربون؛ نظراً إلى توافر المادة العضوية، بل يذوب الكالسايت في المحلول المائي، إذا كان موجوداً في المادة الأصل. ولأن المادة العضوية قليلة، في الترب الصحراوية وشبه الصحراوية، فإن ضغط غاز ثاني أكسيد الكربون في هوائها، داخل المسام، يكون منخفضاً؛ ما يجعل محلول التربة متشبعاً، بالنسبة إلى معدن الكالسايت، عند قيم أقلّ لتركيز الأيونات المكونة له فيه.
د-
قوام التربة
يؤثر قوام التربة في معدل التوصيل الهيدروليكي Hydraulic Conductivity للتربة، استطراداً، في مقدار الغسل وكمية التبخر لمحلول التربة، على سطحها أو قربه، ففي سرعة التكلس وعمق الأفق الكلسي. إذ في الترب ذات القوام الخشن، يكون معدل الرشح عالياً، وكذلك معدل الغسل؛ بينما يكون فقدان الماء، بوساطة التبخر، على سطح التربة أو قربه، قليلاً، نظراً إلى انخفاض الخاصية الشعرية، التي ترفع المحلول المائي نحو السطح، حيث التبخر. وفي هذا النوع من الترب، يكون رسوب الكلس في أسفل قطاع التربة، وربما لا يتكون الأفق الكلسي، إذا كانت كمية الأمطار السنوية مرتفعة، نسبياً، في المناطق شبه الصحراوية. في المقابل، تكون الترب ناعمة القوام، مثل الترب الطينية، منخفضة التوصيل الهيدروليكي؛ ما يحدّ من كمية الغسل، ويزيد من كمية التبخر لمحلول التربة، على سطحها أو قربه، ولا سيما أن الخاصية الشعرية، تكون في هذا النوع من الترب عالية؛ ما يجعل الماء يصعد من داخل التربة إلى السطح، لكي تستمر عملية التبخر. ولذا، يتكون الأفق الكلسي قريباً من السطح، في مثل هذه الترب الناعمة القوام.
هـ-
معدل البخرنتح الإمكاني
كلما ازداد معدل البخرنتح الإمكاني، ازداد تركيز الأيونات في المحلول المائي في التربة، ليصل إلى مستوى تشبعه بمعدن الكالسايت. ولذلك تسود الآفاق الكلسية في المناطق شبه الصحراوية والصحراوية في المناطق الحارة؛ بينما قد تكون محدودة، في المناطق المساوية لها في كمية الأمطار السنوية، في المناطق الباردة. ويزداد معدل البخرنتح الإمكاني، كلما ازداد الإشعاع الشمسي، ودرجة الحرارة، وسرعة الرياح، وقلت الرطوبة النسبية في الهواء. وجميع هذه العناصر متوافرة في المناطق الصحراوية المدارية أكثر منها في أي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية.
التملح Salinization
وهي عملية رسوب الأملاح، الأكثر ذوباناً، في المحلول المائي، مثل: كبريتات الكالسيوم (الجبس) CaSO4 . 2H2O، وكلوريد الصوديوم (الهاليت أو ملح الطعام) NaCl، من محلول التربة، سواء على سطحها، أو في آفاق ملحية، داخل قطاع التربة. ولكي ترسب هذه الأملاح من محلول التربة، فلا بدّ من تركيز للأيونات المكونة لها في المحلول بوساطة، التبخر، أكثر مما كان مطلوباً في عملية التكلس؛ لأن معدنَي الجبس والهاليت أكثر قابلية للذوبان في المحلول المائي، من معدن الكالسايت CaCO3. وتنشط عملية التملح في الأقاليم الصحراوية وشبه الصحراوية، حيث يفوق معدل البخرنتح الإمكاني معدل التساقط السنوي؛ وفي المناطق المنخفضة، ذات التصريف الداخلي، والتي يكون مستوى الماء الجوفي فيها قريباً من السطح؛ وفي المناطق الساحلية، حيث تنتشر السبخات. ويتحكم في سرعة تملح التربة وشدته عوامل عدة، مشابهة لتلك التي تتحكم في عملية التكلس.
اللترتة Laterization
وهي عملية الإذابة الكيماوية للسليكا Si من المعادن، في أفق الاستزراع؛ ونقلها في المحلول المائي إلى الآفاق التحتية، في قطاع التربة؛ وذلك تحت درجة حرارة مرتفعة ومعدل غسل عالٍ، كما هو الحال في ترب الأقاليم الرطبة الدافئة، في المناطق الاستوائية. وينتج من اللترتة تغير كبير للمـادة الأصل، حتى إنه لا يمكن تمييزها، إذ لا يتبقى في أفق الاستزراع، من السليكا، إلا القليل، في بعض بلورات المرو (الكوارتز) الأولية، أو مرتبطة بمعادن الطين الثانوية، وخـاصة معدن الكالينيت Al4Si4O10 (OH)8 Kaolinite. أما الجزء الأكبر من المعادن، في هذا الأفق، فتكون على شكل أكاسيد وهيدروكسيدات الحديد والألمنيوم، الخالية من السليكا، مثل: الهمياتايت Fe2O3، والجيوثايت FeO-OH، والبوكسيت Al(OH)3.
البدزلة Podzolization
البدزلة هي انتقال الأكاسيد السداسية، والمادة العضوية، من الآفاق السطحية إلى الآفاق تحت السطحية للتربة؛ نتيجة كثرة الأمطار، وارتفاع مستوى الماء الجوفي وتذبذبه، في قطاع التربة. وتحدث عملية البدزلة في مدى واسع من درجات الحرارة؛ إذ تحدث في المناطق الباردة والمعتدلة والحارة. إلا أنها لا تحدث في المناطق الحارة، إلا إذا كانت المادة الأصل غنية جداً بعنصر السليكا. ففي الأراضي ذات الغطاء النباتي الكثيف، يكون سطح التربة مغطى بطبقة من المواد العضوية، التي تتحلل، منتجة العديد من الأحماض العضوية، التي تزيد قدرة المحلول المائي للتربة على الإذابة؛ فتنغسل الكاتيونات من الآفاق السطحية، ويسود كاتيون الهيدروجين +H في معقد التبادل، فتصبح التربة أكثر حموضة. وهذا الوسط الحمضي يسرع من تحلل معادن الطين، وانفراد السليكا والألمنيوم والحديد وانتقالها، مع المحلول المائي، إلى أسفل. إلا أن حركة الألومنيوم والحديد تكون أسرع كثيراً من حركة السليكا، في الوسط الحمضي؛ ما يجعل الأخيرة تتركز في الآفاق السطحية؛ بينما ينتقل الحديد والألمنيوم إلى الآفاق السفلية، حيث تتغير الظروف وتقل حموضة المحلول المائي، فيرسبا على شكل أكاسيد.